وفي هذه البيئة العلمية نمت المعارف في المدينة واهتدى القراء إلى ملحوظات متناثرة في الأصوات والغريب والنَّحو، وكانت ملحوظاتهم في النَّحو نواة العمل النَّحوي فيما بعد.
وعلى هذا يمكن القول: إنَّ النَّحو العربي الَّذي اكتمل بنيانه في البصرة والكوفة فيما بعد هو ثمرة من ثمار الدِّراسة القرآنية الَّتي نبتت وترعرعت في المدينة.
وثمة أسباب ودوافع أخرى أسرعت بعلم النَّحو إلى الظُّهور، ثم النَّضج؛ذكرها بعض الباحثين المعاصرين[1]، وهي لا تكاد تخرج عمَّا ذكرناه في هذا البحث، فيطيب لبعضهم أن يذكروا إلى جانب الدَّافع الديني دوافع بعضها قوميّ عربي، وبعضها الآخر اجتماعي.
فأمَّا الدَّافع القومي2 فيرجع إلى اعتزاز العرب بلغتهم وخشيتهم عليها من الفساد أو الفناء أو الذوبان في اللّغات الأعجمية.
ويتمثل الدَّافع الاجتماعي3 في بعد العرب عن البادية، مهد لغتهم الأوَّل، وفساد سلائقهم، بعد اختلاطهم بالأعاجم، في الأمصار، والبيوت، والأسواق، والجيوش، وسائر المرافق العامة والخاصة، إضافة إلى انتشار التَّسرِّي بالأعجميات أو التَّزوُّج بهنَّ، فنتج عن ذلك أمور منها نشوء أجيال من العرب من أمهات غير عربيات، وتأثرهم بهنَّ ففشا اللحن على ألسنتهم وانتشر نتيجة لذلك.
وهذا الَّذي ذكروه يعود في جملته إلى ما ذكرناه - فيما تقدَّم - كاللحن في اللُّغة، وزحفه إلى القرآن، والرَّغبة في درس نصه المقدس، والكشف عن أسراره. [1] ينظر: المفصل في تاريخ النحو العربي 18 وما بعدها، وتجديد النحو العربي 59-69، وفي التفكير النحوي عند العرب 37.
2ينظر: تجديد النحو 58، والمدارس النحوية 12.
3ينطر: المفصل في تاريخ النحو العربي 27، وتجديد النحو 59.