اسم الکتاب : رحلة ابن جبير - ط دار بيروت المؤلف : ابن جبير الجزء : 1 صفحة : 200
ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طربا ثم أخذ في شأنه وتمادى في إيراد سحر بيإنه وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ما اعطى هذا الرجل فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده لا إله غيره.
وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه بالإضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرفهما الله مجالس من قد كرناه في هذا التقييد فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا قدرا ولم نستطب لها ذكرا وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدن[1] وهيهات الفتيان كثير والمثل بمالك يسير[2]ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه ويورق استطلاعه.
وحضرنا له مجلسا ثالثا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالوضع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي فأخذت معجزاته البيانية مأخذها فشاهدنا من أمره عجبا صعد بوعظه انفاس الحاضرين سحبا وأسال من أدمعهم وابلا سكبا ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتبئبا وغادر الكل متندما على نفسه منتحبا لهفان ينادي يا حسرتا واحربا والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحا وكل منهم بعد من سكرته ما صحا فسبحان من خلقه عبرة لأولى الألباب وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب لا إله سواه.
ثم نرجع إلى ذكر بغداد:
هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي ودجلة بينهما فأما
الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه وكان المعمور أولا وعمارة الجانب [1] مثل منتزع من البيت المشهور لربيعة الرقي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى:
يزيد سليم والأغر ابن حاتم [2] لعله يشير إلى أنس بن مالك مفتي المدينة وصاحب المذهب المالكي.
اسم الکتاب : رحلة ابن جبير - ط دار بيروت المؤلف : ابن جبير الجزء : 1 صفحة : 200