اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 464
سوار أخر معترضة، وقد بني القصر عليها أقباء معقودة بعضها فوق بعض بأغرب صناعة وأعظم بناء، فكان هذا القصر حصناً عظيماً، وإنما هدم عن عهد قريب لأنه تحصن فيه قوم من القطاع فكانوا يقطعون بتلك الجهات ويلجأون إليه، فخرج إليهم أهل تونس فقتلوهم وهدموا القصر، وبقربه موضع فيه أقباء ودهاليز تحت الأرض يهاب الدخول فيها، وفيها جثث الموتى على حالها، فإذا مْسَّت تلاشت لقدمها.
وداخل [1] المدينة ميناء تدخله المراكب بشرعها وفيها مواجل كثيرة للماء، وبعضها يسمى بالجرير، وآخر فيها يعرف بمواجل الشياطين بسبب أن من يقرب منها يسمع لها دوياً والناس يتنافسون في الدخول فيها، فمن جسر على دخولها ليلاً علم أنه جريء القلب ثبت الجنان، وهي منظر عظيم هائل، من تكلم فيها بكلمة سمع فيها دوي عظيم يحكي تلك الكلمة، وذلك لإحكام سطوحها، وهي ثمانية عشر صهريجاً مقترن بعضها ببعض في ارتفاعها نحو مائتي ذراع في عرض كبير، والأظهر أنها كانت مخازن لماء عين الزغوانية المجلوب إليها على رأس الحنايا العادية التي لا نظير لها في الدنيا فهي من عجائب الدنيا، وكان هذا الماء يأتي إليها على مسافة خمسة أيام من عين جوقار [2] ، وهو ماء كثير يقوم بخمسة أرحاء أو أكثر، وعرض القناة نحو ثمانية أشبار، وارتفاعها نحو القامة ونصف أعني موضع جري الماء وهذه الحنايا تغيب مرة تحت الأرض في المواضع المرتفعة فإذا جازت على المواضع المنخفضة تكون على قناطر فوقها قناطر حتى تسامي السحاب علواً، فهي من أغرب بنيان في الأرض وفي وسط المدينة صهريج كبير حوله نحو ألف وسبعمائة حنية سوى ما تهدم منها كان يقع فيها الماء المجلوب في هذه القناة ويخرج من هذا الصهريج إلى بعض تلك المواجل، وفي بعض أرجل تلك القناطر كتابة في حجر قيل إن ترجمتها: هذا من عمل أهل سمرقند وقيل إن ذلك الماء جلب في أربعين سنة، ولو قيل في أربعمائة سنة لكان أعجب.
قالوا [3] : ولما افتتح موسى بن نصير جزيرة الأندلس قال لهم: دلوني على أَسنَ شيخ عندكم، فأتي بشيخ قد رفعت حاجباه عن عينيه بعصابة من الكبر، فقال له موسى: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من إفريقية، من مدينة قرطاجنة، فقال له: فما الذي صيرك هاهنا، وكيف كان خبر قرطاجنة. فقال له: إن قرطاجنة بناها قوم من بقية العاديين [4] فسكنوها ما شاء الله ثم خربت ألف سنة فبناها ارمين الملك ابن لاوذ بن نمرود الجبار وجلب إليها الماء بالقناطر على الأودية، وشق الجبال حتى أوصله إلى قرطاجنة، فسكنها قومي ما شاء الله أن يسكنوها إلى أن حفر إنسان في أسس تلك القناطر، فوجد حجراً عليه كتابة فيها: إن هذه المدينة ستخرب إذا ظهر فيها الملح، قال: فبينا نحن في ندي قومنا جلوساً إذا ملح على حجر قد عقد عليه، قال: فتأملنا فإذا ذلك في جميع المدينة، فعند ذلك رحلنا إلى هنا.
وعن عبد الرحمن [5] بن زياد بن أنعم قال: كنت أمشي مع عمّي بقرطاجنة نتأمل آثارها ونعتبر عجائبها، فإذا بقبر عليه مكتوب بالحِمْيرية: أنا عبد الله رسول رسول الله صالح، بعثني إلى أهل هذه القرية أدعوهم إلى الله تعالى فقتلوني ظلماً فحسيبهم الله وهو نعم الوكيل، فهذا لا شك كان سبب خراب قرطاجنة [6] .
وذكر أورشيوش في كتابه: بنيت قرطاجنة قبل بنيان مدينة رومة باثنتين وسبعين سنة ولم تزل ذات هرج ومرج مذ كانت، إما لمحاربة الأباعد أهلها أو لمحاربة أهلها بعضهم بعضاً وكانوا في القديم إذا انتابهم الجوع والوبأ داووا ذلك بهرق دماء الناس، فكانوا يذبحون أمام آلهتهم وعلى مذبح أوثانهم الصبيان والأطفال الذين قد يرحم مثلهم ويحن عليهم العدو، وكانوا يرون هرق دمائهم قرباناً، قال: والعجب أن المعروف أن الشياطين إنما تخدع الناس فيما يشاكل شهواتهم ويوافق أهواءهم، فأما أن تزين لهم مداواة الوبأ بقتل الناس وهرق دماء الأطفال حتى يصير فعلهم أضر من الوبأ الذي يشتكونه فإن ذلك غريب من انقياد الناس للشياطين، وقالوا: إن آلهة أهل قرطاجنة في ذلك الزمان سخطت عليهم من سبب ذلك القربان، وكانوا إذ ذاك قد حاربوا بصقلية حروبَاً كثيرة فتكوا فيها ثم حاربوا سردانية فنكبوا، فإذ ذاك ردّوا عودهم على قائدهم الذي كان صاحب حربهم واسمه امروه، فنفوه ومن كان معه من [1] متابع للاستبصار: 123. [2] البكري: جقار؛ الاستبصار: جفان. [3] متابع للاستبصار: 124، وقارن بالبكري: 42. [4] البكري: العديين. [5] متابع للاستبصار والبكري: 45. [6] إلى هنا ينتهي نص الاستبصار.
اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 464