في الجزيرة ما تفق، وخاب فيها الرجاء وأخفق، فاستحالت بهجتها، وأسالت عليها من الحوادث لجتها، فانتقل إلى رندة معقل أشب، ومنزل للسماك متنسب، وأقام فيها رهن حصار، ومهين حماة وأنصار، ولقيت ريحه كل أعصار، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها، وأمكنت منه يدي مسيها، فحواه رمسه، وطواه عن غده أمسه، حسبما بسطنا القول فيه، فيما مر من أخبار أبيه، وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يرميه بملامه، ويصميه بسهامه، وربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون، وأملح من روض الحزون، فإنه كان ينظم من بدائع القول لئلئ وعقوداً، تسل من النفوس سخائم وحقوداً، وقد أثبت من كلامه، في بث الأمة، واستجادة عذله وملامه، ما تستبدعه، وتحله النفس وتودعه، فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من أخوته وأقعده، وأدناهم وأبعده: وافر
أعيذك أن يكون بنا خمول ... ويطلع غيرنا ولنا أفولُ
حنانك أن يكن جرمي قبيحاً ... فإن الصفح عن جرمي جميلُ
ألست بفرعك الزاكي وماذا ... يرجّى الفرع خانته الأصولُ
واخبرني المعتد بالله أن المعتمد أباه وجهه إلى شلب واليا وكانت ملعب شبابه، ومالف أحبابه، التي عمر نجودها غلاماً، وتذكر عهودها أحلاماً، فقال يخاطب ابن عمار وقد توجه إليها: طويل
إلا حيّ أوطاني بشلب أبا بكر ... وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري
وسلم على قصر الشراجيب عن فتىً ... له أبداً شوق إلى ذلك القصرِ
وقصر الشراجيب هذا متناه في البهاء والإشراق، مباه لزوراء العراق، ركضت فيه جياد راحاته، وأومضت بروق أمانيه في ساحاته، وجرى الدهر مطيعا بين بكورة وروحاته، أيام لم تحل عنه تمائمه، ولا خلت من أزاهر الشباب كمائمه، وكان يعتدها مجنة أماله ومنتهى أعماله، يميل إلى بهجة جنباتها، وطيب نفحاتها وهباتها، والتفاف خمائلها، وتقلدها مكان حمائلها، وفيها يقول ابن اللبانة: طويل
أما علم المعتد بالله أنّني ... بحضرته في جنّة شقّها نهرُ
وما هو نهر أعشب النبت حوله ... ولكنّه سيف حمائله خضرُ