له ذهن يكشف الغامض الذي يخفى، ويعرف رسم المشكل وإن كان قد عفا، أبصر الخفيات بفهمه، وقصر فكها على خاطره ووهمه، فجاء بالنادر الذي أعجز، وعطل التطويل بالمقتضب الموجز، ونظم أخبار الأمم المتفرقة في لبة القريض، وأسمعها الطرب في نغم معبد والغريض، وكان بالأندلس سراً للإحسان ومزرئا على زياد وحسان، إلا أنه اختصر، حين احتضر، واعتبط، عنما استبشر به واغتبط، فلم يطل زمانه، ولم يهطل داركاً عنانه، وأغفل الأوان من وسمه، وأثكل لفقد اسمه، فأصبحت نواظر الآداب بعده رمدة، ونفوسها متوجعة كمدة، وقد أثبت له ما يبهر سامعه، ويثني إليه الإحسان مسامعه، فمن ذلك قوله: بسيط
مللت حمص وملتني ونطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدر
وسولت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر
أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق في ما عن من وطري
ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما كان في الشعر
وله من قصيدة: وافر
سطا اسدا وأشرق بدر تم ... ودارت بالحتوف رحى زبون
وأحدقت الرماح به فاعيا ... علي أهالة هي أم عرين
وله يتغزل: بسيط
هو الهوى وقديماً كنت أحذره ... السقم مورده والموت مصدره
يا لوعة وجلا من نظرة أمل ... الآن أعرف رشدا كنت أنكره
جد من الشوق كان الهزل أوله ... أقل شيء إذا فكرت أكثره
ولي حبيب دنا لولا تمنعه ... وقد أقول نأى لولا تذكره
واغتيل فتى من فتيان اشبيلية ليلا، وجرت الأيام إليه حربا وويلا، فأصبح قتيلا قد قضى نحبه، ومضى وما ودع صحبه، وكان معروفاً بوجود، موصوفاً بكرم وجود، يباري بهما وابل القطر، مع كونه عينا من أعيان القطر، وكان لأبي جعفر هذا كثير الافتقاد، جميل الرأي فيه الاعتقاد، ينيله في كل وقت، ويزيله عن مواقف كل خزي ومقت، فقال يرثيه: طويل
خذا حدثاني عن فل وفلان ... لعلي أرى باق على الحدثان
وعن دول حسن الديار وأهلها ... فنين وصرف الدهر ليس بفان