اسم الکتاب : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف : زينب فواز الجزء : 1 صفحة : 495
وأحسنهن, وأنبتها الله نباتاً حسناً. وكانت أخذتها أمها ولفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار كما نذرت على نفسها وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافس فيها الأحبار وكل منهم أراد أخذها وقال لهم زكريا -وكان أكبرهم-: أنا أحق بها منكم لأن عندي خالتها.
فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك ولا نسلمها إليك ولكن نقترع عليها ومن خرج سهمه أخذها فاقترعوا فطلعت من سهم زكريا, فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى واسترضعت منها حتى بلغت مبالغ النساء وبنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه مرتفعاً لا يرتقى إليها إلا بسلم فلا يصعد إليها غيره, وكان يأتيها بطعامها وشرابها في كل يوم وكان إذا خرج من عندها أغلق بابها فإذا دخل عليها وجد عندها رزقاً -أي فاكهة- فيقول لها: من أين أتى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله.
فلما ضعف زكريا عن حملها خرج إلى قومه وقال لهم: إني كبرت وضعفت عن حمل ابنة عمران فأيكم يكفلها بعدي ويقوم بأداء خدمتها كما كنت أفعل بها. فقالوا: لقد جهدنا وأصابنا من الجهد ما ترى فلم نجد من يحملها فتقارعوا عليها بالسهام فخرجت سهم رجل صالح نجار يقال له: يوسف بن يعقوب بن ناثان وكان ابن عمها فتكفل بها وحملها فقالت له مريم: يا يوسف, أحسن الظن بالله سيرزقنا من حيث لا نحتسب فجعل يوسف يرزقه الله برزق حسن ويأتي كل يوم لها بما بصلحها من كسبه فيدخل 'ليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق فتقول له: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما بلغت من العمر خمس عشرة سنة وهي إذ ذاك في خدمة البيت المقدس, وكان اعتراهم يوم شديد الحر نفد فيه ماؤها فأخذت قلتها وانطلقت إلى العين التي فيها الماء لتملأها منها.
فلما أن أتت إلى العين وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشراً سوياً فقال لها: يا مريم, إن الله بعثني إليك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أعوذ بالرحمن منك إنك كنت تقياً. قال لها: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) (مريم: 20) قال: (كذلك قال ربك هو على هينٌ) (مريم: 21) . فلما قال لها ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ في جيب درعها وكانت وضعته إليه.
فلما انصرفت عنها لبست درعها فحملت بعيسى بإذن الله, ثم ملأت قلتها وانصرفت إلى مسجدها, فلما ظهر عليها حملها كان أول من أنكر عليها ذلك ابن عمها يوسف النجار واستعظم ذلك الأمر ولم يدر ماذا يصنع, وكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة واحدة وإذ أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فلما اشتد ذلك عليه وأعياه الأمر كلمها وقال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على أن أكتمه فغلبني ذلك ورأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت له: قل قولاً جميلاً.
قال لها: أخبريني يا مريم هل نبت زرع من غير بذر. قالت: نعم. قال: هل نبتت شجرة من غير غيث. قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر.
قالت: نعم, ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر, والبذر يكون من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدته. أو تقول: إن الله لا يقدر أن ينبت شجراً حتى استعان بالماء, ولولا ذلك لم يقدر على إنباته فقال لها يوسف: نعم, إن الله قادر على كل شيء وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون. فقالت له مريم: أمل تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى.
فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها من أمر الله وأنه لا يسعه أن يسألها عنه وذلك لما رأى من كتمانها لذلك, ثم تولى خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها وضعف قوتها. فلما أثقلت مريم ودنا نفاسها خرجت من المسجد على
اسم الکتاب : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف : زينب فواز الجزء : 1 صفحة : 495