اسم الکتاب : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف : زينب فواز الجزء : 1 صفحة : 397
القائم بإزاء الكشك تطرب الآذان بأصوات خريرها وتكسرها وحبوبها المنتشرة في الحوض كقطع الماس تمثل منظرا لطيفا جدا، وكان محل جلوسنا وموقعه جميلا للغاية.
فإننا فضلا عن مشاهدة الجنينة والحوض كنا نشاهد البحر من وراء الجنينة، ولكن ما أدراك ما هو ذاك البحر إنما هو البحر الذي كان يتراءى للعين كأنه من صفائح الفضة واللجين بما انتشر فوقه من أضواء النور المنبعثة من القمر الليل بل البحر الذي تغزلت به الشعراء فوصفوه بأشعارهم وصفا لا يتحمله المقام، وكان في تلك الليلة ساكنا كل السكون والهواء كان يهب صحيحا فيعود عليلا بأرجاء الأزهار، وكانت السماء صافية والأفق خال من الكدورة فكنا لا نعرف أين نوجه الأنظار في تلك الليلة البديعة. أنوجهها إلى البحر الذي كان صفيحة من لجين؟ أم نوجهها إلى الأجرام السماوية التي كانت تلمع وتضيء في ذاك الفضاء عيانا كغادة حسناء ألقت عنها حجابها؟ أو نوجهها إلى البدر المنير الذي كان يفوق عليها ضياء ونورا ولألأة؟ أم نوجهها إلى الحصى الصغيرة التي كانت تلمع وتبرق في الجنينة من انعكاس نور البدر فتمثل دمالج من ألماس تلمع في زنود الحسان لا جرم أن تلك المناظر كانت تحير المرء فلا يهتدي إلى أحسنها سبيلا على أن المدام قد وجهت أنظارها إلى العلاء فأرسلت عينيها في فضاء السماء وكانت هذه الخاتون العالمة بفن الهيئة والهندسة قد طبقت دروسها على خريطة العالم بما استفادته تلك الليلة من لمعان السماء فبعد سكوت مستطيل صرفته في النظر إلى هاته المناظر التفتت إلى قائلة: هل لك إلمام بفن الهيئة؟ قلت: قليل جدا.
قالت: أيمكن لك أن تري كوكب القطب الشمالي؟ قلت: نعم إن رأس الدب الأصغر يرى من ورائنا.
قالت: أيمكن لنا تفريج الأبراج؟ قلت: إن القمر بدر وكثير اللمعان وفي ظني أن ذلك متعذر علينا وعلمي في هذا الفن ناقص جدا فهل لك أن تلذي سمعي ببعض التفصيلات؟ قالت: أجل مع المنة.
ثم أخذت المدام تنقل لي أسماء السيارات ووضعيتها ودوراتها وأبعادها وتبدلات أشكالها بصورة بالغة حد الإتقان والكمال في بسط النقل وحسن البيان حتى دهشت لتلك قوة الحافظة التي وهبتها لأنه مهما حصل المرء من العلم والمعرفة فليس من السهل أن يحفظ في ذهنه أبعاد النجوم عن بعضها ويذكره بتدقيق تام.
وكانت تروي لي بإيضاح وتفصيل أقوال الفلاسفة والحكماء المتعلقة بفن الهيئة ومقدار ما تغلب عليهم من تغير الأفكار والآراء وكيف أن المتأخرين قد جرحوا أقوال من تقدمهم وكيف أن الذين جاءوا على إثر هؤلاء المتأخرين قد عادوا إلى تصويب واستحسان كلام الأولين والتصديق عليه وتشرح شرحا مستوفيا عن أوضاع النجوم السيارات ومع أن المدام كانت في المحاورات الأولى تلقى علي كثيرا من الأسئلة فصرت الآن أسألها عن عدة أشياء، أما هي فإنها بعد إذ لم يبق في كنانة علمها منزع ولم تضن علي بإيضاح وبيان ما حولت نظرها إلى جهة البحر وأخذت تشرح لي بتفصيل عن عكس القمر في البحر وعن كيفية ضيائه وأسباب لمعانه، ثم وجهت نظرها إلى الجنينة وصارت تبحث في المعادن والنباتات وتأتي عليها
اسم الکتاب : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف : زينب فواز الجزء : 1 صفحة : 397