اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 388
ثم بلغنا بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم ألقوا في قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلتقونا على حلب أو الفرات، وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه، فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم، ووصلنا الفرات مُرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا لعلهم وعساهم، فما لمع لهم بارق، ولا ذرّ لهم شارق، فتقدّمنا إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطائهم غاية العجب، فبلغنا رجوعهم بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب، وفكرنا أنه متى تقدّمنا بعساكرنا الزاخرة، وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وبإقامتهم فيها فسدت أمورها، وعم ضرر العباد، وخراب البلاد، فعدنا بفتياً عليها، ونظرة لطف من الله إليها.
وها نحن أيضاً الآن مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون غرار عزماتنا المشهورة، ومُستعملون المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار، " وما كنا مُعَدّبين حتى نبعث رسولا ".
وقد سيّرنا حاملي هذا الفرمان الأمير الكبير ناصر الدين بن علي خواجا، والإمام العالم ملك القضاة كمال الدين موسى بن يونس، وقد حملناها كلاماً يُشافهانهم بهن، فليثقوا بما تقدمنا به إليهما، فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى: " قل فلّله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين "، فتُعدّون لنا الهدايا والتحف، فما بعد الإنذار من عاذر، وإن لم تداركوا الأمر فدماء المسلمين وأموالهم مطلوبة بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول تقصيرهم.
فليُمعن السلطان لرعيته النظر في أمره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من ولاّه الله أمراً من أمور هذه الأمة واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلّته وفقره ". وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر، " والسلام على من اتبع الهدى ".
كتب في العشر الأول من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين.
وسنذكر ما أجابه السلطان عن هذا الكتاب في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
ذكر وقوع الفناء في الأبقار
وفيها: أصاب الفناء الأبقار دون غيرها من المواشي حتى تعطلت الدواليب والسواقي، وغلت أسعارها غلواً لم يُسمع بمثله، وبيع الرأس البقر بألف درهم وما يقاربها، واستعمل الناس الخيل والجمال والحمير عوضاً عنها، فما أجدت في الحرث والكرب ولا أغنت عنها، فتعذرت الأقصاب وتعطلت، وتُرك زراعة أكثرها وأبطلت، فارتفعت قيمة القنود وبلغت عشرة دنانير القنطار. ولقد حكي عن شيخ من أهل الفلاحة ببلد أشموم أنه كان يملك من الأبقار الخيسية السارحة في تلك الجزائر ما جُملته ألف وإحدى عشرة رأساً، فماتت في هذا الفناء أولاً فأولاً حتى لم يبق له منها غير ثمانية لا سواها.
وقال صاحب نزهة الناظر: كان مبدأ فناء الأبقار في أواخر سنة تسع وتسعين وستمائة، فلما دخلت سنة سبعمائة تزايد الأمر في موتها، وتعطلت الدواليب وزراعات الأمصار، وتوقف حال أرباب السواقي، وتزايد الأمر على الناس فكان يكون في الساقية عشرة أروس يصبح الستة منها موتي، ويأتي اليوم الثاني والثالث فلا ترى منها شيء، ويحتاج صاحبها إلى شراء غيرها بقيمة زائدة، فحصل الضرر البالغ لأصحاب البساتين، خصوصاً لأهل دمياط وأشمون والمزاحميين والقليوبيين، وكذلك بلاد الصعيد ودواليب المعاصر، وقال: لقد بلغني أنه كان بدمياط رجل من أكابرها وله عدة بساتين، وكان فيها مائة واثني عشر رأساً مثمنة، فما مضى عليها ثلاث شهور إلا وقد بقيت منها تسعة أروس لا ينتفع بها.
وكتب الأمراء إلى سائر البلاد أن لا يذبح أحد شيئاً من البقر ولا من العجول، وكتبوا إلى نائب الشام بأن يجهز إليهم أبقاراً شامية من سائر البلاد للدواليب السلطانية، ثم وصلت أبقار كثيرة مع التجار، وأبيع الرأس منها بثلاثمائة، وبمائتين، وغلقت معاملة سوق البقر في تلك السنة للمقطعين، وفاضت على ذلك مائة وستون ألف درهم.
ذكر بقية حوادث مصر والشام
اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 388