اسم الکتاب : تاريخ ابن خلدون المؤلف : ابن خلدون الجزء : 1 صفحة : 790
يرون أنّ نظم المتنبّي والمعرّي ليس هو من الشّعر في شيء لأنّهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحدّ الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عند ما يرى أنّ الشّعر يوجد للعرب وغيرهم. ومن يرى أنّه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشّعر فلنرجع إلى الكلام في كيفيّة عمله فنقول: اعلم أنّ لعمل الشّعر وإحكام صناعته شروطا أوّلها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتّى تنشأ في النّفس ملكة ينسج على منوالها ويتخيّر المحفوظ من الحرّ النّقيّ الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقلّ ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميّين مثل ابن ربيعة وكثيّر وذي الرّمّة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتريّ والرّضيّ وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنّه جمع شعر أهل الطّبقة الإسلاميّة كلّه والمختار من شعر الجاهليّة. ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرّونق والحلاوة إلّا كثرة المحفوظ. فمن قلّ حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنّما هو نظم ساقط. واجتناب الشّعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثمّ بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنّسج على المنوال يقبل على النّظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربّما يقال إنّ من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفيّة الظّاهرة إذ هي صادرة [1] عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها وقد تكيّفت النّفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنّه منوال يؤخذ بالنّسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة.
ثمّ لا بدّ له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذّ السّرور. ثمّ مع هذا كلّه فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الّذي في حفظه. قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند [1] وفي نسخة أخرى: صادة.
اسم الکتاب : تاريخ ابن خلدون المؤلف : ابن خلدون الجزء : 1 صفحة : 790