قال: ليست العبرة
بالكثرة، وإنما العبرة بالبركة، فقد يعطيك الله الكثير فيكون سببا لهلاكك، ويعطيك
القليل المبارك فيفتح عليك به مفاتيح جنانه.
قلت: هذا صحيح..
فنحن نجمع في حياتنا صنوفا من النعم، ولكن لا نكاد نحس بها.
قال: ويوشك لو استمر
بكم الأمر على ما أنتم عليه من الغفلة أن تسلبوا ما أعطيتم من النعم.
قلت: كيف؟
قال: ألا تعرف حضارة
سبأ؟
قلت: أجل.. فهي
حضارة راقية، فقد كانت لها من الجنات ما تنبهر له الأبصار، كما قال تعالى يصفها:﴿
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ﴾ (سـبأ:15)
قال: ولكنهم
بإعراضهم عن الله وانحراهم عن سبيله أدركتهم سنة الله فيمن حاد عن الله، قال تعالى يبين الحال التي انتقلوا
إليها، وسببها:﴿ فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾
(سـبأ:16)، فهذا الذي صار إليه أمر تينك
الجنتين إليه بعد كفرهم وشركهم باللّه وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، فبعد
الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية تبدلت إلى شجر
الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل.
قلت: ولكن مع ذلك
فحضارة السبأيين بدائية بالنسبة لحضارتنا.
قال: القرآن الكريم
يعمم هذا النموذج على كثير من القرى التي انحرفت عن سبيل الله، قال تعالى يبين سنته في ذلك:﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا
قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص:58)، وقال تعالى:﴿ أَفَلَمْ
يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ (طـه:128)، وقال