وقد ذكر بعض الحكماء
المعنى الذي تشير إليه هذه الآيات، وارتباطه بهمة إبراهيم عليه السلام، ودور الهمة
في ذلك، فقال: (وليس المعنى بالكواكب التي رآها هذه الأجسام المضيئة، فإنه كان
يراها في الصغر، ويعلم أنها ليست آلهة، وهي كثيرة وليست واحدا.. والجهال يعلمون أن
الكوكب ليس بإله. فمثل إبراهيم عليه السّلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية..
ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب اللّه عز وجل، وهي على طريق
السالكين، ولا يتصور الوصول إلى اللّه تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من
نور بعضها أكبر من بعض، وأصغر النيرات الكوكب، فاستعير له لفظه، وأعظمها الشمس،
وبينهما رتبة القمر. فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات يصل إلى
نور بعد نور، ويتخيل إليه في أوّل ما كان يلقاه أنه قد وصل، ثم كان يكشف له أن
وراءه أمرا، فيترقى إليه ويقول قد وصلت، فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب
الأقرب الذي لا وصول إلا بعده، فقال هذا أكبر.. فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال
عن الهوى في حضيض النقص، والانحطاط عن ذروة الكمال قال: ﴿ يَاقَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
[الأنعام: 78، 79]، وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وقد
يغتر بالحجاب الأول. وأول الحجب بين اللّه وبين العبد هو نفسه. فإنه أيضا أمر
ربانى، وهو نور من أنوار اللّه تعالى، أعنى سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق
كله، حتى أنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به، وتنجلي فيه صورة الكل. وعند ذلك يشرق
نوره إشراقا عظيما، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في أول الأمر
محجوب بمشكاة
اسم الکتاب : منازل النفس المطمئنة المؤلف : أبو لحية، نور الدين الجزء : 1 صفحة : 210