اسم الکتاب : أساليب التربية وضوابطها الشرعية المؤلف : أبو لحية، نور الدين الجزء : 1 صفحة : 83
(الأنعام:108)
ومما يدخل في هذ الباب من الآداب أن ينوع المحاور
الأدلة بحسب القدرة العقلية للآخر، ولا يشتغل بالدفاع عن دليل يرى عدم إمكانية فهم
الآخر له، وقد ضرب القرآن الكريم لهذا مثلا بإبراهيم u في
حواره مع النمروذ، قال تعالى:﴿ أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:258)
فإبراهيم u لم يشتغل هنا
بالدفاع عن قوله ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، بل أورد
مباشرة دليلا آخر مفحما[1].
[1]
وقد رد بعض العلماء هذا القول، وقالوا بأن إبراهيم u في هذه الآية لم ينتقل من دليل إلى دليل آخر، بل الدليل واحد في
الموضعين وهو « أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر
يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى، ثم إن قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق
على إحداثها له أمثلة منها: الإحياء، والإماتة، ومنها السحاب، والرعد، والبرق،
ومنها حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدل »
وقد نصوا على أنه لا يجوز له أن
ينتقل من دليل إلى دليل آخر، إلا إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك
المثال إلى مثال آخر، فكان ما فعله إبراهيم u من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من
مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر، وقد
استدلوا لهذا بوجوه منها:
الوجه الأول: أن صاحب الشبهة إذا
ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع، وجب على المحق القادر على الجواب أن
يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر
في الدليل الأول، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة
واجباً مضيقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
الوجه الثاني: أنه لما أورد المبطل
ذلك السؤال، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه
الأول كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه
وكونه ساقطاً وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول
وحقارة شأنه وأنه غير جائز.
الوجه الثالث: وهو أنه وإن كان يحسن
الانتقال من دليل إلى دليل، أو من مثال إلى مثال، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه
أوضح وأقرب، وهٰهنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه،
وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في
الجثة أعظم من السمٰوات، وأنه هو الذي يكون محركاً للسمٰوات، وعلى هذا
التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع
الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر
إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً(انظر: التفسير الكبير)
وغيرها من الوجوه، ونرى أن الأمر في
ذلك يسير، فسواء انتقل إلى دليل آخر، أو وضح دليله، فإن مجرد انتقاله من دليل إلى
دليل ببساطة ويسر دال على مدى قناعته بالقضية التي يطرحها، وأن أدلته أقوى من أن
تواجه، بخلاف ما لو ظل يدافع عن دليل واحد، وخاصة إن كان دليلا غامضا يحتاج إلى
عقل ذكي لإدراكه.
اسم الکتاب : أساليب التربية وضوابطها الشرعية المؤلف : أبو لحية، نور الدين الجزء : 1 صفحة : 83