سرت مع جعفر والشاب إلى الزاوية.. لم أكن أتصور أنها بتلك
البساطة.. لقد كانت بناء بسيطا، ليس فيه أي تكلف ولا زخرفة، ولا تطاول.. ولكن
روائح الإيمان كانت ـ مع ذلك ـ تفوح من جنباتها، لتملأ ما حولها بأنوار دونها كل
الأنوار.
دخلنا الزاوية، فرأينا قوما مجتمعين يرددون بصوت واحد.. وبقلب
واحد.. وبهمة واحدة ما ورد عن نبيهم a من أذكار.
سألت جعفرا، فقلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ورثة من ورثة رسول الله.. انشغلوا بالله عما سواه،
فملأ قلوبهم بالأنس الذي لا يمكن أن تجده في أي سوق من أسواق الدنيا، ولا ناد من
نواديها.
قلت: فمن الذي بعث فيهم هذه الهمة؟
قال: لقد قرأوا قوله تعالى:﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا
لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152)، فعلموا أن ذكر الله لهم معلق على
ذكرهم له، فلا ينال ما عند الله إلا من وفر في نفسه الاستعداد لتنزله.. فراحوا
يوفرون هذا الاستعداد.
وقرأوا قوله تعالى:﴿ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
(العنكبوت: 45)،
فعلموا أن الله لا يريد من العبادات صورها ولا طقوسها وجسومها، وإنما يريد منها ما
تحمله من نفحات ذكره، كما قال تعالى:﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ
يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ (الحج:
37)
وقرأوا قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ (الأحزاب:41)، ً وقوله تعالى:﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ (آل عمران: 41)، وقوله تعالى:﴿
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾
(البقرة: 200) فعلموا
أن التنزلات المعلقة على ذكر الله لن تنال إلا من أدمن على الذكر وأكثر منه.