في صباح ذلك اليوم، نهضت على أصوات ملأتني بالرعب.. فقد سمعت ضجة كبيرة في الحارة التي
كنت أسكن فيها.. ولم ألبث بعدها حتى سمعت أصوات الرصاص ترتفع.. ثم لم ألبث حتى
سمعت أصوات سيارات الشرطة، وهي تملأ الفضاء بصوتها المميز.
كانت الحادثة ـ بالنسبة لي وبالنسبة لمن يسكنون معي تلك الحارة ـ
بسيطة عابرة.. فلم تصر تأخذ منا تلك المساحة التي كانت تأخذها في بداية عهدنا
بمثلها.
لقد كانت ـ في بداية عهدنا بمثلها ـ تأخذ منا اهتماما كبيرا.. تعقد
له المجالس الطويلة.. أو تغلق لأجله الأبواب، وتكمم الأفواه، ويفر كل امرئ بنفسه
عن كل شيء.
هكذا بدأ تعاملنا مع مثل تلك الحوادث.. ولكنا بعد أن تعودنا عليها..
وبعد أن تعودت أسماعنا على تلك الأصوات المزعجة، واندمجت لها، صارت لنا كأي صوت
نسمعه، ولا نبالي به.
لم ألبث بعد ذلك حتى سمعت جارا لنا، كان شابا نشيطا يدرس في الجامعة،
وكانت تلك الأيام أيام امتحانات، فأخذت أسترق السمع لما يحفظ رغما عني، كما تعودت
أن أسترق، فلم أسمع منه إلا ما تعودت أن أسمعه.. فقد كان يردد كل حين أسماء حفظها
صبياننا كما حفظها شبابنا.. بل حتى عجائزنا سرت إليهن العدوى، فنسين أبا زيد
الهلالي وعنترة بن شداد، ورحن يرددنها لنا..
لقد كان بين الحين والحين يذكر أوجست كونت، ودوركايم، وليني بريل،
وديفيد هيوم، وآدم سميث، وهويز، وهربرت سبنسر، وفرويد، وماركس، وأنجلز، وبافلوف،
وديوي، وبرتراند راسل، وهارولد لاسكي.. وغيرهم كثير.. وكان كل اسم من تلك الأسماء
ينفجر في أذني كما تنفجر أعتى المتفجرات.