تعريف الدليل وأقسامه
(من أدلتها) ، فاكتساب الأحكام لا يمكن أن يكون بالأوهام والتخمين، بل لابد فيه من الرجوع للأدلة، والأدلة جمع دليل، والدليل في اللغة المرشد، سواء أكان ذلك في الحسيات أو في المعنويات، فمن إطلاقه على الحسيات قول الشاعر: إذا حل دين على اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل سيصبح فوقي أقتم الريش واقعاً بقالي قلا أو من وراء دليل فالدليل هنا: هو الخريت الذي يعرف المسافات ويدل السائر فيها، ومن إطلاقه على المعنويات قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45] ، (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي: علامة عليه مرشدة لوجوده.
والدليل في الاصطلاح: هو ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري، ويمكن أن تقول: ما يتوصل بصحيح النظر فيه -أي: بالنظر الصحيح فيه- إلى العلم بمطلوب خبري، فالتوصل إنما يكون بصحيح النظر -أي: النظر الصحيح- والنظر حركة النفس في المعقولات، وحركتها بالمحسوسات تسمى (بالتخيل) .
فالنظر إذاً: هو التفكير، وهو صحيح وفاسد، فالصحيح من النظر: ما كان من الجهة التي يدل منها الدليل على مدلوله.
والفاسد من النظر: ما كان من الجهة التي لا يدل منها على مدلوله، فمثلاً: الذي يريد أن يعمل دولاباً من خشب، إذا بحث في الخشب من جهة قدمه أو حداثته، أو من جهة ملك فلان له، أو نحو ذلك، فهذا الوجه لا يوصل إلى المراد، لكن إذا بحث من جهة استقامة الخشب واعوجاجه، ولينه وقساوته، أدى هذا إلى المطلوب؛ لأنه الوجه الذي يعين على صناعة الدولاب منه.
(إلى العلم) أغلب إطلاق الأصوليين للدليل على ما يوصل إلى العلم أو الظن، وبعضهم يخص ما يوصل إلى العلم بهذا المصطلح: الدليل، ويطلق على ما يوصل إلى الظن الأمارة، ولكن ذلك في اصطلاح مندرس لم يسر عليه المؤلفون.
وقوله: (إلى مطلوب خبري) المطلوب: ما تتعلق به النفس، والمقصود به: الأمر الذي يكون -قبل إقامة الدليل- عليه دعوى، ووقت إقامة الدليل مطلوباً، وبعد إقامة الدليل نتيجة، فهو نتيجة ذلك الدليل.
وقوله: (خبري) منسوب إلى الخبر، فالكلام ينقسم إلى قسمين: إلى إنشاء وخبر، فالإنشاء: إيقاع معنىً بلفظ يقارنه في الوجود، كالطلب: قم اجلس وهكذا، فهذا إنشاء، والمعنى لم يوجد قبل قوله قم، ولا يتعلق به التصديق ولا التكذيب.
وأما الخبر: فهو التحدث عن أمر سبق التحدث عنه، كقول: قمت بالأمس، أو كنت قائماً في مكان كذا، أو ستقوم، فهذا تحدث عن أمر لا يقارن وجوده التحدث به، وهو قابل للتصديق والتكذيب، فالخبر كله يقبل الصدق والكذب بخلاف الإنشاء فلا يقبلها، والذي يحتاج إلى الدليل هو ما يقبل الصدق والكذب؛ لأن ما لا يقبل التصديق أو التكذيب لا يحتاج فيه أصلاً إلى الدليل، إنما يحتاج إلى الدليل فيما يقبل التصديق والتكذيب، فلهذا قلنا: (إلى مطلوب خبري) .
والأدلة تنقسم إلى قسمين: إلى أدلة إجمالية وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي أجناس الأدلة: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
والأدلة التفصيلية: هي جزئيات هذه الأجناس، فمثلاً: الأدلة التفصيلية من الكتاب مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فهذا دليل على وجوب غسل الوجه في الوضوء، والآية هي دليل وجوب الوضوء وهكذا، فهذا دليل تفصيلي لا دليل إجمالي.
والفقه إنما يؤخذ من الأدلة التفصيلية، فهي التي يبحث فيها في علم الفقه، وأما أصول الفقه فإنما يتعلق البحث فيه بالأصول الإجمالية، والبحث فيه عن الكتاب كجنس للأدلة التفصيلية، والسنة كذلك وهكذا.
إذاً: هذا تعريف الفقه، وبه يعرف أصول الفقه، فأصول الفقه -إذاً- بالمعنى اللقبي: هو العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد.
وإذا أردت الصفة التي يتصف بها الأصولي فتقول: هو العالم بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد.
إذاً: هذا معنى أصول الفقه في المعنى اللقبي أنه: العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية، أي: أجناس الأدلة، وطرق الاستفادة منها، أي: طرق أخذ الأحكام منها، وهذا يدل على أن الأحكام أيضاً تبحث في أصول الفقه.
وحال المستفيد، أي: حال الذي يأخذ الأحكام من الأدلة وهو المجتهد.
إذاً: هذه ثلاثة أمور ينتظمها أصول الفقه في الاصطلاح: أولاً: الكلام في الأدلة نفسها.
ثانياً: الكلام في طرق دلالتها على الأحكام.
ثالثاً: الكلام في شروط آخذها من الأحكام وهو (المجتهد) .