تعريف أصول الفقه لفظاً ولقباً
فبدأ بتعريف هذين الجزئين، ومعنى قوله (مفردين) : أي: ليس واحد منهما مركباً، ولا يقصد الإفراد الذي يقابل التثنية والجمع، بل يقصد هنا أن كل واحد من هذين الجزئين غير مركب، فليس فيهما تركيب إضافي.
قال رحمه الله: [فالأصل ما يبنى عليه غيره] : بدأ بالجزء الأول وهو الأصول، فذكر أن الأصول: جمع أصل، وعرف الأصل فقال: هو ما يبنى عليه غيره، وهذا في الاصطلاح، والأصل في اللغة: هو ما يبنى عليه غيره من أساس الدار، وعلى ما ينبت عليه غيره كأصل الشجر.
قال رحمه الله: [والفرع ما يبنى على غيره] ذكر هنا مقابل الأصل وهو الفرع، وتعريفه في الاصطلاح: هو ما يبنى على غيره.
ثم عرف الفقه، فقال: [الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد] .
الفقه: مصدر فقه إذا فهم، وهو في اللغة الفهم، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] أي: ما نفهم كثيراً مما تقول.
وفي الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وتعريفه هنا بالمعرفة: يقصد به الذي يقوم بنفس الفقيه، أي: الصفة التي تقوم بنفس الفقيه ليكون بها فقيهاً، وإذا أردنا تعريفه كعلم من العلوم قلنا: العلم المتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، فنجعله قسماً من أقسام العلوم يتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
والأحكام: جمع حكم، وهو في اللغة: الإتقان، فيقال: أحكم الشيء.
أي: إحكاماً وحكماً إذا أتقنه، ومنه قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] .
ويطلق كذلك على الإمساك، فيقال: أحكم السفيه، إذا أمسكه عن سفهه ورده عنه، ومنه قول جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا وهو في الاصطلاح: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
إثبات أمر لأمر: كـ (قام زيد ومات زيد) ، و (هذا واجب وهذا حرام) .
أو نفيه عنه: كـ (لم يقم زيد ولم يمت زيد) ، و (ليس هذا بواجب وليس هذا بحرام) ، فكل ذلك يسمى حكماً، وهو ينقسم باعتبار أصله إلى ثلاثة أقسام: إلى حكم شرعي، وحكم عقلي، وحكم عادي، فالذي يثبت أمراً لأمر أو ينفي أمراً عن أمر لا يخلو أن يكون شرعاً.
أي: وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وما صدر عنه يسمى بالأحكام الشرعية.
والشرع: معناه: البيان والإظهار، ويطلق أيضاً على الشرب، فيقال: شرع الأمر إذا بينه، ومنه شراع السفينة؛ لوضوحه وإظهاره، ويقال: شرعت الدابة إذا دخلت في الماء لتشرب منه، وتطلق الشريعة على الماء كماء الغدير أو البركة التي يشرب منه.
وهو في الاصطلاح: ما أظهره الله من الأحكام لعباده وهيئه؛ لأن يكون معيناً تشرب منه المقاصد والتفصيلات.
قال رحمه الله: [والحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به] (خطاب الله) أي: هذا الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي وهو الوحي.
(خطاب الله) ، أي: كلامه الموجه إلى عباده سواء أنزل بلفظه ومعناه كالقرآن والحديث القدسي، أو أنزل بمعناه فعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه، وهو السنة النبوية، أو جاء دليله مجملاً وكلف المكلف بالاجتهاد في استنباطه واستخراجه، فاستخرجه العلماء، سواءً أجمعوا عليه فكان إجماعاً قطعياً، أو لم يجمعوا عليه فكان اجتهاداً قابلاً للقبول والرد.
(خطاب الله المتعلق بفعل المكلف) فخرج بذلك خطاب الله المتعلق بذات الله، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فهذا في ذات الله وصفاته، وخرج كذلك خطاب الله المتعلق بذات المخلوق، كقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] خلقكم: هذا خطاب الله المتعلق بذات المخلوق.
(من حيث إنه مكلف به) خرج بها خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله، كقوله: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] .
(وما تعملون) هنا: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله عز وجل.
والقسم الثاني: هو الحكم العقلي: وهو قضية، أي: أمر قابل للصدق والكذب لا يتوقف على شرع ولا على تجربة، إنما تؤخذ بالعقل المجرد، وعقول المكلفين متفاوتة، ودرجاتها متباينة، ولكن ما اتفق عليه من الإثبات والنفي هو حكم العقل، سواء كان ضرورياً أي: لا يحتاج في استنباطه إلى التأمل، أو كان نظرياً.
أي: يحتاج في استنباطه إلى تأمل.
والقسم الثالث: الحكم التجريبي العادي، وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كما يحصل في إثبات أن عقاراً من العقاقير دواء لمرض محدد، فلم ينزل بذلك وحي ولا يقتضيه عقل، وإنما عرف من خلال التجربة والتكرار، فتكرر تجريبه على المصابين بهذا المرض، فلوحظ تأثيره فيهم جميعاً، فجعل علاجاً لذلك المرض، فهذا النوع هو الحكم العادي، ويمكن تخلفه بأن يستعمل مريض هذا الدواء فلا يستفيد منه شيئاً، ويستعمله آخر -مريض بنفس المرض- فيستفيد منه؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى، ومثل هذا: الإحراق في النار، فإن الأصل أن النار تحرق الأشياء القابلة للاحتراق إذا لامستها، بحصول الشروط كالملامسة وانتفاء الموانع، كانتفاء الحائل، وأن يكون الشيء قابلاً للاحتراق، ولكن ذلك يمكن أن يستثنى منه، فإبراهيم عليه السلام رمي في النار فما احترق؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، فهذه هي الأحكام.
قوله: (التي طريقها الاجتهاد) فالأحكام الشرعية منها ما يأتي صريحاً في الوحي بنص القرآن أو بنص السنة، فلا يكون طريق معرفته الاجتهاد، وإنما طريق معرفته الوحي، فهذا لا يسمى فقهاً، بل هو من الأمور المتفق عليها التي جاءت في النص، فمثلاً: وجوب الصلاة والزكاة، ووجوب الطهارة، وإباحة البيع وتحريم الربا وتحريم الزنا، هذه أمور نصية لا يمكن أن تنسب إلى مذهب من المذاهب؛ لأنها ليست من اجتهاد أحد من الناس، وإنما هي وحي من عند الله سبحانه وتعالى.
(التي طريقها) أي: طريق معرفتها.
(الاجتهاد) ، والاجتهاد في اللغة: بذل الجهد في أيّ شيء، فيقال: اجتهد فلان في السير، أي: عدا فيه وجد، ويقال: اجتهد في الأمر.
أي: بذل قصارى جهده فيه.
والاجتهاد في الاصطلاح: بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن بالأحكام مأخوذ من أدلتها، فهو مختص بمن كان فقيهاً أي: متصفاً بشروط الاجتهاد، وبمن بذل كل وسعه -أي: كل طاقته- للوصول إلى ظن، فلا يلزم القطع بالاجتهادات، بل لا يمكن القطع بها، وقد كان مالك رحمه الله يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] ، فكل ما طريقه الاجتهاد يتعذر فيه القطع بتفاوت عقول الناس.
وقوله: (في تحصيل علم) أي: الوصول إليه بتحصيل ظن.
(بالأحكام الشرعية) : أي: بحكم شرعي قد جاء أصله في الوحي، ثم بذل الجهد في استخراجه واستنباطه.
(بالأحكام الشرعية من أدلتها) أي: أن يكون ذلك مأخوذاً من الأدلة، وهذا التعريف الذي ذكره هنا للقفه تعريف مختصر، وللأصوليين تعريف مطول وهو: الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلة.
الفقه إذاً: هو العلم بالأحكام الشرعية، والعلم هنا لا يقصد به القطع، بل يقصد به الفهم والإدراك، فيشمل ذلك القطعيات والظنيات.
(بالأحكام الشرعية) سبق تعريفها.
(العملية) فذلك مخرج للعقائد، فإن العلم بها علم بالأحكام الشرعية غير العملية، بل النظرية المكتسب بخلاف الموحى، فالوحي لا يكتسب إنما هو اختيار من عند الله.