responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الأدب وفنونه - دراسة ونقد المؤلف : عز الدين إسماعيل    الجزء : 1  صفحة : 169
ولنقف الآن وقفة أطول عند خاطرة من خواطر الأستاذ أحمد أمين الممتعة, ومن الطريف أنه نشرها بعنوان: "من غير عنوان"[1].
يبدأ الكاتب خاطرته بالحديث عن أكلة أكلها فساء هضمها في معدته، فانقبضت نفسه نتيجة لذلك، وتغير مزاجه، وفارقه المرح، وسئم كل شيء حوله، وبرم بمخالطة الناس كما برم بالعزلة عنهم، وكره السكوت كما كره الكلام. وعلى الجملة فقد اسودّ كل شيء في عينيه، فصار يرى العالم متجهمًا، "ثقيل الروح، فاسد المنطق"، يستوي فيه السعيد والشقي، والفقير والغني، والذكي والغبي، فقد سوى بينهم القبر. أما نظام هذا العالم فقد لاح له أنه فوضى، وأما الحياة فكلها فساد، وأما العيش فهذيان وتعلل بالأباطيل، وأما الدنيا فتلعب بالناس لعب الكرة. "وكل شيء في العالم مفترس؛ أسد يفترس ذئبًا، وذئب يفترس حَمَلًا، وإنسان يفترس كل شيء حتى نفسه". ثم زاد تلبّك معدته فزادت نقمته على الحياة. وفي خلال ذلك كانت أقوال قديمة للشعراء تتقاطر في ذهنه، مؤكدة كل المعاني السلبية البشعة التي رآها في العالم وفي الحياة وفي الناس.
ثم تناول -كما يقول- دواءً هاضمًا فتغير مزاجه وتغيرت نظرته من النقيض إلى النقيض، فأخذ يهش للحياة، وينظر إلى العالم بوجه منطلق، فإذا العالم يتألق في عينيه جمالًا، ورقة، وعذوبة، وإذا كل شيء حوله يتهلل بالبشر، وإذا الدنيا "قيثارة يوقع عليها شجى الألحان ... ". وكما تقاطرت الأشعار القديمة على ذهنه في الحالة الأولى، تقاطرت أشعار قديمة أخرى في ذهنه، مؤكدة في هذه المرة كل الجوانب الإيجابية المحببة في الحياة.
وهنا يقف الكاتب ليتأمل ما حدث في الحالين فيهوله الأمر، ويقول: "رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم، ويحيل السواد بياضًا، والشقاء سعادة، والقبح جمالًا، والظلام نورًا، والحزن سرورًا، فأين الحق؟ ".
ومن الواضح أن الكاتب هنا لم يناقش موضوعًا بعينه، ولم يصدر في كتابته عن فكرة محددة ومختمرة في ذهنه، ولم يرد أن يقرر في نفس القارئ وجهة نظر خاصة، فالأمر كله لم يخرج عن ملاحظة حالته المعنوية عندما ساء هضمه وتلبكت معدته، وحالته عندما زال هذا السوء وهذا التلبك. والغريب أن يتم هذا التحول من النقيض إلى النقيض نتيجة لتناوله جرعة دواء هاضم، ولكن الأغرب منه أن نجد الشعراء يتحدثون بلسانه في الحالين، فإذا هم -بما قالوا- يدعمون ذلك التناقش. ومن هنا ينهي الكاتب

[1] أحمد أمين: فيض الخاطر، ج1، ط5، "مكتبة النهضة".
اسم الکتاب : الأدب وفنونه - دراسة ونقد المؤلف : عز الدين إسماعيل    الجزء : 1  صفحة : 169
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست