اسم الکتاب : الأدب وفنونه - دراسة ونقد المؤلف : عز الدين إسماعيل الجزء : 1 صفحة : 162
مهما يكن من شيء فإن رغبة العقاد في الحديث عن ميله إلى العزلة وعدم إقباله على السياحة في المكان اقتضت منه ذلك التمهيد الطويل عن كبار الرحالة في العالم، وعن ملكة الرحلة، وعن الشعوب التي صارت الرحلة ملكة من ملكاتها القومية ... إلخ.
ولعله من الواضح الآن أن هذا المنهج في كتابة العنصر الواحد من عناصر السيرة يأتلف كل الائتلاف مع المنهج العام للسيرة كلها، في أن الكاتب لا يتجه إلى سرد قصة حياته إجمالا وتفصيلا بقدر ما يحاول التأمل في هذه الحياة، وتفسيرها وتبريرها.
لقد كره العقاد السياحة في المكان، أي: الحركة فيه، وآثر عليها السياحة في النفس. ولعل سيرته الذاتية -"أنا"- كما كتبها تؤكد أنه حتى على مستوى الكتابة، قد آثر أن يستبطن ذاته على أن يحكي قصة حياته، فكان بذلك صادقًا مع نفسه فيما اعتقد وفيما كتب.
2- المقالة:
وكلمة المقال ليست غريبة على اللغة العربية، ولكنها من حيث دلالتها الفنية تعد محدثة في أدبنا العربي، والحق أن تاريخ المقالة عندنا يرتبط بتاريخ الصحافة، وهو تاريخ لا يرجع بنا إلى الوراء أكثر من قرن ونصف قرن بكثير؛ وبذلك يكون المقال قد دخل في حياتنا الأدبية بعد أن أخذ في الآداب الأوروبية وضعه الحديث. وذلك أن أول استعمال لكلمة مقال Essay ظهر حين نشر "مونتين"[1] مقالاته عام 1850، ولكن كلمة "مقال" كانت في الحقيقة أقرب إلى ما عرفة الأدب العربي القديم في "الرسالة" لا الرسالة الشخصية أو الديوانية, ولكن الرسالة التي تتناول موضوعًا بالبحث، كرسالة إخوان الصفا مثلا, وهي بذلك كانت تطول حتى تملأ عشرات من الصفحات. أما المقالة في وضعها الفني الحديث فتتميز بالقصر؛ لأنها "لا تحاول أن تشمل كل الحقائق والأفكار المتصلة بموضوعها كما صنع "لوك"[2] في "مقال عن الإدراك الإنساني"، ولكنها تختار جانبًا أو على الأكثر قليلًا من جوانبه لتجعله موضع الاعتبار. وهنا يكون ما فيها من فن؛ لأن المؤلف يجب أن يختار هذه الجوانب من موضوعه بحيث يستطيع تقديمها إلى قرائه بطريقة مشوقة. وهذا لا يتضمن المهارة في اختيار موضوع محدد، والحرص في اختيار المادة المتصلة به فحسب، بل يتضمن كذلك الحذاقة Graftsmanship الكافية [1] ميشال يواقيم دو مونتين Michal Eyquem de Montaigne "1533-1592": محامٍ فرنسي ابتدع فن المقالة. [2] جون لوك John Locke "1632-1704": فيلسوف إنجليزي، عارض نظرية الحق الإلهي، وقال: إن الاختيار أساس المعرفة.
اسم الکتاب : الأدب وفنونه - دراسة ونقد المؤلف : عز الدين إسماعيل الجزء : 1 صفحة : 162