اسم الکتاب : الرحلة الشامية المؤلف : الأمير محمد علي الجزء : 1 صفحة : 116
شتّى ومباحث كثيرة، كنت أجدني في خلالها غاية في الارتياح والسرور، لأنّي كنت أراني جالساً بين رجلين فاضلين عاقلين من أكبر الناس أدباً وحلماً، وأوسعهم معرفة بأحوال الأمم والشعوب. وقد كان عطوفة والي حلب يتدفّق علماً ويتوقّد فطنة وذكاء، وإذا تحدّث في موضوع علمي أو سياسي أو أخلاقي اتّسعت له فيه المادة، فيصوغ ما شاء الله من معلوماته الصحيحة ومعارفه الكثيرة عبارات رقيقة رشيقة. ثمّ هو يجيد التركية والعربية والفرنساوية غاية الإجادة، ويتكلّم بها كلّها كأنّها لغته الأصلية الّتي فطر عليها. وقد فهمت من خلال كلامه وحركاته أنّه تربّى تربية عسكرية، وأنّه كان أركان حرب في الجيش الماضي، غير أنّه كان مرتدياً لباساً ملكياً ملائماً لوظيفته الحاضرة. ثمّ كنت سمعت أنّه تقلّب على جملة وظائف عالية، حيث كان في ولاية الأناضول وبلاد العرب والشام وبغداد وبصرى. وإن رجلاً تعاقبت عليه كلّ هذه الولايات، وكان عمله في كلّ واحدة منها ينادي بفضله ويشهد لاستعداده وكفاءته، وأنّه من الذكاء والعلم بالدرجة الّتي لا نعرفها إلا لبعض أفراد يعدّون على الأصابع، لهو حقيق أن يوضع في العيون وتعقد عليه القلوب. كما أنّ الحكومة التي تريد أن تكون في صف أعظم
الحكومات، وتكبر من دولتها وصولتها، هي أحوج ما تكون إلى استخدام مثل هذه الأفكار الواسعة المتصرّفة لتنتفع بها في أجلّ شؤونها وأخطر أعمالها. والشيء الغريب الّذي لا يزال غامضاً غير مفهوم إلى الآن، هو أنّنا نرى الحكومة العثمانية الحاضرة تختار لأعلى مناصبها وأسمى مراكزها صغار الموظّفين وضعافهم. على حين أنّه لا يزال يوجد، والحمد لله، رجال عثمانيون أذهبوا أعمارهم الطويلة في خدمة الدولة مع غاية الصدق والإخلاص، وما برحوا يعملون في مصالحهم على رقيّ الدولة ورفعة شأنها، ويسعون سعياً متواصلاً وراء سعادتها وإكبار أمرها. فكان من حقّ هؤلاء العمّال المخلصين المتفانين في حبّ الدولة أن يشغلوا تلك المراكز السامية والوظائف الكبيرة. وأغرب من ذلك دعوى بعض الناس اليوم أنّه لا يوجد بين كبار الرجال في الحكومة من تتوفر فيه الكفاءة والاستعداد لإدارة الأعمال السياسية الخطيرة. وهذا ما جعلني أتجاسر أمام دولة ناظم باشا، والي بغداد، وأقول له بكلّ صراحة، على مسمع من سعادة القومندان توفيق باشا وغيره، أنّي أستغرب كثيراً أن الحكومة الحالية تعيّن في أرقى
اسم الکتاب : الرحلة الشامية المؤلف : الأمير محمد علي الجزء : 1 صفحة : 116