اسم الکتاب : عصر الدولة الزنكية المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 251
يحلّ له من: الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فأخذ ما أفتوه بحلهّ ولم يتعّده إلى غيره البتة [1].
فما يصدر عن ممثلي الشريعة الغراء يتوجب أن يكون ملزماً لكل إنسان سواء كان في القمة أم في القاعدة، وقولهم هو القول الفصل لأن نور الدين - وقد عرفنا مدى صدقه مع رّبه ومع نفسه ومع رعيته - ما كان يريد أن يمارس الاستشارات القانونية المزدوجة، يبرز للناس أنه لا يقدم على عمل إلاّ بعد الإطلاع على رأي قادة فكرهم ومشرعي قوانينهم، ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً مهما كانت درجة تناقضه مع طروحات اللجان الاستشارية والتشريعية والبرلمانية، التي ستكون بمثابة الرداء الخارجي الذي يحمي في داخله مضامين وممارسات لا تمتد إلى لون الرداء ونسيجه في شيء [2] وكان يكاتب العلماء للاستثاره، فقد ذكر ابن الجوزي أن نور الدين كاتبه مراراً [3] وكان نور الدين سأل العلماء والفقهاء عما يشكل عليه من الأمور الغامضة وكان يقول لمستشاريه من العلماء والفقهاء: بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير دلّونا عليه، وأشركونا في الثواب فقال له شرف الدين بن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئاً من أبواب البر إلا وقد فعله، ولم يترك لأحد بعده فعل خير إلا وقد سبقة إليه [4].
3 - فراسته في معرفة العلماء: لم يكن الرجل يتعامل مع العلماء بحساب الجملة كما يقولون، حيث يختط الفقيه بالجاهل، تحت ستار العلم، ويضيع الجيد بالردئ وحيث يبرز أحياناً من بين العلماء رجل أو اثنان أو أكثر، فيمتطوا المكانة التي بلغوها ويختبئوا خلف الرداء الذي لبسوه لكي يزيّفوا حقيقة، أو يلبسوا باطلاً بحق، أو يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً إن الرجل يرفض الكذب، والكذب على الله وعلى الناس وعلى الحقيقة وبالتالي فهو يرفض الغش والتزوير والتضليل والخداع وهو - من الجهة الأخرى - يملك من الذكاء وعمق النظر وسرعة البديهة ما يجعله يزن الناس الذين يتعامل معهم بدقة عجيبة، كدقة الموازين، فهو كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه متحدثاً عن نفسه لست بالخبّ [5]، ولا الخبّ يخدعني، ومن ثم يبدو أن ليس بمقدور أي رجل أن " يعبر " على بداهة نور الدين وتفحصه الذكي للرجال، حتى لو تدثر بألف رداء علمي واختبأ خلف ستار، فهذه الحادثة التي يرويها لنا شاهد عصره العماد الأصفهاني تحمل دلالتها على علمَّية [1] الباهر ص 164. [2] نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 134. [3] المنتظم (10/ 249). [4] عيون الروضتين (1/ 374). [5] الخب: الخادع.
اسم الکتاب : عصر الدولة الزنكية المؤلف : الصلابي، علي محمد الجزء : 1 صفحة : 251