اسم الکتاب : تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المؤلف : أبو السعود الجزء : 1 صفحة : 39
{وَمِنَ الناس} شروعٌ في بيانِ أنَّ بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة وأصلُ ناسٍ أُناسٌ كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل لوقة في ألوقة وعُوّض عنها حرفُ التعريف ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما وأمَّا ما في قولِه ... إن المنايا يطَّلِعْنَ على الأُناسِ الآمنينا ... فشاذ سموا بذلك لظهورهم وتعلق الاناس بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً ثم قلبت ألفاً سُمّوا بذلك لنسيانهم ويُروى عن ابن عباس أنه قال سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي واللام فيه إما للعهد أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول كأنه قيل ومنهم أو من أولئك والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم كما ينبئ عنه التبعيضُ ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه أو نعتٌ لمبتدإٍ كما في قوله عز وجل وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومِنْ في قولِه تعالَى
{من يِقُولُ} موصولةٌ أو موصوفة ومحلُها الرفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ من الناس الذي يقول كقوله تعالى {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} الآية أو فريق يقول كقوله تعالى {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} الخ على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالةِ اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة أو الصفة وما يتعلق به من الصفات جميعا لاكونهم ذواتِ أولئك المذكورين وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل فإن مباه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفات المدكورة تنافي الإنسانية فحقُّ من يتصف بها أن لا يُعلمَ كونُه من الناس فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين أو عن الجنس المقصور على المصرّين وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً
البقرة (8)
في الآخرة والعذاب كالنَكال بناءً ومعنى يقال أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ومنه الماءُ العذبُ لما أنه يقمَعُ العطش ويردَعه ولذلك يسمى نُقاخاً لأنه ينقَخُ العطشَ ويكسِرُه وفراتا لأنه يفرته على القلب ويكسره ثم اتُسِع فيه فأطلق على كل ألمٍ فادح وإن لم يكن عقاباً يُراد به ردْعُ الجاني عن المعاودة وقيل اشتقاقُه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيضُ الحقير والكبير نقيضُ الصغير فمن ضرورة كونِ الحقيرِ دونَ الصغير كونُ العظيم فوق الكبير ويستعملان في الجُثث والأحداث تقول رجل عظيم وكبير تريد جثتَه أو خطرَه ووصفُ العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكيرُ من التفخيم والهويل والمبالغة في ذلك والمعنى أن على أبصارهم ضرباً من الغِشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس وهي غشاوة التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظامِ نوعٌ عظيم لا يبلغ كنهه ولا يدرك غايتُه اللهم إنا نعوذ بك من ذلك كلِّه يا أرحم الراحمين
اسم الکتاب : تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المؤلف : أبو السعود الجزء : 1 صفحة : 39