responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 73
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِلْكُلِّ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا الْعَذَابِ؟
قُلْنَا: الْمُنَافِقُونَ مَخْصُوصُونَ بِزِيَادَاتٍ فِي هَذَا الْبَابِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، فَبِهَذَا الْعِلْمِ يَفْتُرُ حُبُّهُ لِلدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا سَعَادَةَ/ إِلَّا فِي هَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ عَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَاشْتَدَّ حُبُّهُ لَهَا، وَكَانَتِ الْآلَامُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ فَوَاتِهَا أَكْثَرَ فِي حَقِّهِ، وَتَقْوَى عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ وَظُهُورِ عَلَامَاتِهِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَذَابِ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ حُبِّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَلِّفُهُمْ إِنْفَاقَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، وَيُكَلِّفُهُمْ إِرْسَالَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إِلَى الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَعْرِيضَ أَوْلَادِهِمْ لِلْقَتْلِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي كَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إِنْفَاقَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ تَضْيِيعٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّ تَعْرِيضَ أَوْلَادِهِمْ لِلْقَتْلِ الْتِزَامٌ لِهَذَا الْمَكْرُوهِ الشَّدِيدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَشَقُّ عَلَى الْقَلْبِ جِدًّا، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّعْذِيبِ، كَانَتْ حَاصِلَةً لِلْمُنَافِقِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُبْغِضُونَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقُلُوبِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ شَاقَّةٌ شَدِيدَةٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ مِنْ أَنْ يَفْتَضِحُوا وَيَظْهَرَ نِفَاقُهُمْ وَكُفْرُهُمْ ظُهُورًا تَامًّا، فَيَصِيرُونَ أَمْثَالَ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَرَّضُ الرَّسُولُ لَهُمْ بِالْقَتْلِ، وَسَبْيِ الْأَوْلَادِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَكُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ خَافُوا مِنْ ظُهُورِ الْفَضِيحَةِ، وَكُلَّمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ خَافُوا مِنْ أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَفَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ مَكْرِهِمْ وَخُبْثِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ تَأَلُّمَ الْقَلْبِ وَمَزِيدَ الْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ أَتْقِيَاءُ، كَحَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، وَهُمْ خلق كثير مبرؤن عَنِ النِّفَاقِ وَهُمْ كَانُوا لَا يَرْتَضُونَ طَرِيقَةَ آبَائِهِمْ فِي النِّفَاقِ، وَيَقْدَحُونَ فِيهِمْ، وَيَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِمْ، وَالِابْنُ إِذَا صَارَ هَكَذَا عَظُمَ تَأَذِّي الْأَبِ بِهِ وَاسْتِيحَاشُهُ مِنْهُ، فَصَارَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَوْلَادِ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ وَضِعَافَهُمْ كَانُوا يَذْهَبُونَ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ مَعَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَالثَّنَاءِ الْعَظِيمِ وَالْفَوْزِ بِالْغَنَائِمِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَوْلَادِ الْأَقْوِيَاءِ، كَانُوا يَبْقَوْنَ فِي زَوَايَا بُيُوتِهِمْ أَشْبَاهَ الزَّمْنَى وَالضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلْقَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْمَقْتِ وَالِازْدِرَاءِ وَالسِّمَةِ بِالنِّفَاقِ، وَكَأَنَّ كَثْرَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ صَارَتْ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا فِي حَقِّهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ إِزْهَاقَ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الْكُفْرِ وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ إِزْهَاقَ أَنْفُسِهِمْ حَالَ مَا كَانُوا كَافِرِينَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ يَقُولُ لِلطَّبِيبِ: أُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيَّ فِي وَقْتِ مَرَضِي، فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَا تُوجِبُ كَوْنَهُ مُرِيدًا لِمَرَضِ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَقُولُ لِلطَّبِيبِ: أُرِيدُ أَنْ تُطَيِّبَ جِرَاحَتِي، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، وَقَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ لِعَسْكَرِهِ: اقْتُلُوا الْبُغَاةَ، حَالَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كونه مريدا لذلك الحرب، فكذا هاهنا.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 73
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست