responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 171
الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ الْعَدَدَ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ يَغْلِبُونَ الْعَالَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ إِعْلَاءَ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقْوِيَةَ شَرِيعَتِهِ، فَإِذَا رَجَعُوا مِنْ ذَلِكَ النَّفْرِ إِلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْذَرُوهُمْ بِمَا شَاهَدُوا مِنْ دَلَائِلِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، فَيَتْرُكُوا الْكُفْرَ وَالشَّكَّ وَالنِّفَاقَ، فَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ: قَالَ لِأَنَّ هَذَا الْحِسَّ لَا يُعَدُّ فِقْهًا فِي الدِّينِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا أَنَّ الْقَوْمَ الْقَلِيلَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ سِلَاحٌ وَلَا زَادٌ يَغْلِبُونَ الْجَمْعَ الْعَظِيمَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَثُرَ زَادُهُمْ وَسِلَاحُهُمْ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، فَحِينَئِذٍ انْتَبَهُوا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وليس من البشر. إذا لَوْ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ لَمَا غَلَبَ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ، وَلَمَا بَقِيَ هَذَا الدِّينُ فِي التَّزَايُدِ وَالتَّصَاعُدِ كُلَّ يَوْمٍ، فَالتَّنَبُّهُ لِفَهْمِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَفَقَّهٌ.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَقَايَا أَحْكَامِ الْجِهَادِ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ أَمْرَ الْجِهَادِ، وَهُمَا عِبَادَتَانِ بِالسَّفَرِ، بَيَّنَ أَيْضًا عِبَادَةَ التَّفَقُّهِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالسَّفَرِ. فَقَالَ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ، وَلَيْسَ حَالُهُ كَحَالِ الْجِهَادِ مَعَهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الْفِرَقِ السَّاكِنِينَ فِي الْبِلَادِ، طَائِفَةٌ إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيَعْرِفُوا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَيَعُودُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ، فَيُنْذِرُوا وَيُحَذِّرُوا قَوْمَهُمْ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ وُجُوبَ الْخُرُوجِ إِلَى حَضْرَةِ الرَّسُولِ لِلتَّفَقُّهِ وَالتَّعَلُّمِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْخُرُوجِ لِلتَّفَقُّهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟
قُلْنَا: مَتَى عَجَزَ عَنِ التَّفَقُّهِ إِلَّا بِالسَّفَرِ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّفَرُ، وَفِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً، بَلْ كَانَ يَحْدُثُ كُلُّ يَوْمٍ تَكْلِيفٌ جَدِيدٌ وَشَرْعٌ حَادِثٌ. أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ صَارَتِ الشَّرِيعَةُ مُسْتَقِرَّةً، فَإِذَا أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ فِي الْوَطَنِ لَمْ يَكُنِ السَّفَرُ وَاجِبًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى السَّفَرِ لَا جَرَمَ رَأَيْنَا أَنَّ الْعِلْمَ الْمُبَارَكَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي السَّفَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «لَوْلَا» إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ بِمَعْنَى التَّحْضِيضِ مِثْلَ هَلَّا، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، لِأَنَّ هَلَّا كَلِمَتَانِ هَلْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَعَرْضٌ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِلرَّجُلِ هَلْ تَأْكُلُ؟ هَلْ تَدْخُلُ؟ فَكَأَنَّكَ عَرَضْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَ «لَا» وَهُوَ جَحْدٌ، فَهَلَّا مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ:
الْعَرْضُ، وَالْجَحْدُ. فَإِذَا قُلْتَ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: هَلْ فَعَلْتَ. ثُمَّ قُلْتَ مَعَهُ: «لَا» أَيْ مَا فَعَلْتُهُ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ الْإِخْلَالُ بِهَذَا الْوَاجِبِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي «لَوْلَا» لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ:
لَوْلَا دَخَلْتَ عَلَيَّ، وَلَوْلَا أَكَلْتَ عِنْدِي. فَمَعْنَاهُ أَيْضًا عَرْضٌ وَإِخْبَارٌ عَنْ سُرُورِكَ بِهِ، لَوْ فَعَلَ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ في «لو ما» وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الْحِجْرِ: 7] فثبت أن لولا وهلا ولو ما أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكُلِّ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْضِيضُ فَقَوْلُهُ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أَيْ فَهَلَّا فَعَلُوا ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِمَنْ يَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حَجَّةٌ، وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي تَقْرِيرِهِ فِي كِتَابِ «الْمَحْصُولِ مِنَ الْأُصُولِ» ، وَالَّذِي نَقُولُهُ هاهنا أَنَّ كُلَّ ثَلَاثَةٍ، فِرْقَةٌ. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 171
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست