responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 158
يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: كَانَ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُقْرِي الضَّيْفَ، وَيَمْنَحُ مِنْ مَالِهِ. وَأَيْنَ أَبِي؟ فَقَالَ: أَمَاتَ مُشْرِكًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِي ضِحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ يَبْكِي فَدَعَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ وَأَبَا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَالْوَصْفِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ: فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا تستغفروا والأمران مقاربان. وَسَبَبُ هَذَا الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَأَيْضًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ. فَطَلَبُ الْغُفْرَانَ لَهُمْ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَيْضًا لَمَّا سَبَقَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ. فَلَوْ طَلَبُوا غُفْرَانَهُ لَصَارُوا مَرْدُودِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ دَرَجَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسلام وحظ مَرْتَبَتِهِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ قَالَ:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] وَقَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ يُوجِبُ الْخُلْفَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو هَاشِمٍ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ شَيْئًا بَعْدَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: 107] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَجْهَلُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، بَلْ نَصُّ الْقُرْآنِ يُبْطِلُهُ. وَهُوَ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ:
23] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 24] وَالثَّانِي: أَنَّ فِي حَقِّهِمْ يَحْسُنُ رَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَإِسْكَاتُهُمْ، أَمَّا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا أَوْ مَعْصِيَةً. وَكِلَاهُمَا جَائِزَانِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَغَيْرُ جَائِزَيْنِ عَلَى أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ هُوَ تَبَيُّنُ كَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْأَقَارِبِ أَوْ مَنِ الْأَبَاعِدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وَكَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ مَا حَكَيْنَا، يُقَوِّي هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مُحَمَّدًا مِنْ بَعْضِ مَا أَذِنَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا الْمُبَالَغَةَ فِي إِيجَابِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْكُفَّارِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِدِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الِانْقِطَاعِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً أَيْضًا فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُبَايَنَةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَقْوَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا أَيْ قَلِيلَ الْغَضَبِ، وَبِكَوْنِهِ أَوَّاهًا أَيْ كَثِيرَ التَّوَجُّعِ وَالتَّفَجُّعِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَضَارِّ بِالنَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ مَيْلُ قَلْبِهِ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ شَدِيدًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 158
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست