responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 15
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهَا بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ، نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ، وَنَحْنُ نُفَسِّرُهَا تَارَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُخْرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْعَارِفِينَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مِنْهَا وَهِيَ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفُهَا كَوْنُ تِلْكَ الْبِشَارَةِ حَاصِلَةً مِنْ رَبِّهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَقَوْلُهُ: فِيها نَعِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ لِأَنَّ النَّعِيمَ مُبَالَغَةٌ فِي النِّعْمَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي النِّعْمَةِ إِلَّا خَلُوُّهَا عَنْ مُمَازَجَةِ الْكُدُورَاتِ وَقَوْلُهُ: مُقِيمٌ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهَا دَائِمَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ دَوَامِهَا بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ: أَوَّلُهَا: مُقِيمٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَبَداً فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يُبَشِّرُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمَنْفَعَةٍ خَالِصَةٍ دَائِمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِالتَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ حَدُّ الثَّوَابِ. وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ هَذَا الثَّوَابِ كَامِلَ الدَّرَجَةِ عَالِيَ الرُّتْبَةِ بِحَسْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ الْأَرْبَعَةِ. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
الْمُرَادُ منه خيرات الدنيا وقوله: وَرِضْوانٍ لهم الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ:
وَجَنَّاتٍ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنَافِعُ وَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعَمِ خَالِصَةً عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ، لِأَنَّ النَّعِيمَ مُبَالَغَةٌ فِي النِّعْمَةِ/ وَقَوْلُهُ: مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ الَّذِي يَجِبُ حُصُولُهُ فِي الثَّوَابِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَارِفِينَ الْمُحِبِّينَ الْمُشْتَاقِينَ فَنَقُولُ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرَحَ بِالنِّعْمَةِ يَقَعُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْرَحَ بِالنِّعْمَةِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْرَحَ بِهَا لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُنْعِمَ خَصَّهُ بِهَا وَشَرَّفَهُ وَإِنْ عَجَزَ ذِهْنُكَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ فَتَأَمَّلْ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَاقِفًا فِي حَضْرَةِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ وَسَائِرُ الْعَبِيدِ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي خِدْمَتِهِ، فَإِذَا رَمَى ذَلِكَ السُّلْطَانُ تُفَّاحَةً إِلَى أَحَدِ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ عَظُمَ فَرَحُهُ بِهَا فَذَلِكَ الْفَرَحُ الْعَظِيمُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ السلطان خصه بذلك الإكرام، فكذلك هاهنا. قَوْلُهُ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فَرَحُهُمْ بِسَبَبِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْرَحْ بِالْفَوْزِ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا فَرِحَ لِأَنَّ مَوْلَاهُ خَصَّهُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فَرَحُهُ لَا بِالرَّحْمَةِ بَلْ بِمَنْ أَعْطَى الرَّحْمَةَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَقَامَ يَحْصُلُ فِيهِ أَيْضًا دَرَجَاتٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَرَحُهُ بِالرَّاحِمِ لِأَنَّهُ رَحِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَغَّلُ فِي الْخُلُوصِ فَيَنْسَى الرَّحْمَةَ وَلَا يَكُونُ فَرَحُهُ إِلَّا بِالْمَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصِدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ مَشْغُولًا بِالْحَقِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَاحِمٌ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ فِي الْحَقِّ، بَلْ تارة مع الحق وتارة مع الخلق، وفإذا تَمَّ الْأَمْرُ انْقَطَعَ عَنِ الْخَلْقِ وَغَرِقَ فِي بَحْرِ نُورِ الْحَقِّ وَغَفَلَ عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَالنِّقْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْبَلَاءِ وَالْآلَاءِ، وَالْمُحَقِّقُونَ وَقَفُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فَكَانَ ابْتِهَاجُهُمْ بِهَذَا وَسُرُورُهُمْ بِهِ وَتَعْوِيلُهُمْ عَلَيْهِ وَرُجُوعُهُمْ إِلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فَلَا تَقْنَعُ نَفْسُهُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الِاسْتِبْشَارَ بِسَمَاعِ قَوْلِ رَبِّهِمْ، بَلْ إِنَّمَا يَسْتَبْشِرُ بِمَجْمُوعِ كَوْنِهِ مُبَشَّرًا بِالرَّحْمَةِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ اسْتِبْشَارُهُ بِالرَّحْمَةِ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ النَّازِلَةُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَاللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعٍ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 15
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست