responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 106
رَأْسِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ قُلْتُ لَكَ فَمَا أَطَعْتَنِي» فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقُبِضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ بِصَدَقَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُمَرُ اقْتِدَاءً بِأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْهَا عُثْمَانُ،
وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا مِنْهُ؟
قُلْنَا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِهَانَةِ لَهُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ بِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ، وَأَعْلَمَ اللَّهُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، لِهَذَا السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَكَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي ثَعْلَبَةَ مَعَ نِفَاقِهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ امْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ عَاهَدَ اللَّهَ فِي أَنَّهُ لَوْ آتَاهُ مَالًا لَصَرَفَ بَعْضَهُ إِلَى مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ الْمَالَ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مَا وَفَى بِذَلِكَ الْعَهْدِ، وَهَهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ تَعَالَى؟
وَالْجَوَابُ: الْمُنَافِقُ قَدْ يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِكَوْنِهِ عَارِفًا بِاللَّهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَاهِدَ اللَّهَ، وَلِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ كَافِرًا. وَكَيْفَ لَا أَقُولُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ هَذَا الْعَالَمِ مَقْرُونٌ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ؟ وَيَقِلُّ فِي أَصْنَافِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُهُ، وَالْكُلُّ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ حِينَ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لَمَّا بَخِلَ بِالْمَالِ، وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا، وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ أَنْ يَحْصُلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، أَوْ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّلَفُّظِ حَتَّى لَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ دَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْمُعَاهَدَةِ؟
الْجَوَابُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ بِاللِّسَانِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَلَكِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعَهْدِ.
يُرْوَى عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سليمان قَالَ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي الْبَحْرِ، فَنَذَرَ قَوْمٌ مِنَّا أَنْوَاعًا مِنَ النُّذُورِ، وَنَوَيْتُ أَنَا شَيْئًا وَمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ سَأَلْتُ أَبِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ فِ بِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ قَوْلَهُ:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ كَانَ شَيْئًا نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ/ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْمُعَاهَدَةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا حَصَلَ التَّلَفُّظُ بِهَا بِاللِّسَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا وَلَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ»
أَوْ لَفْظُ هَذَا مَعْنَاهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إِخْبَارٌ عَنْ تَكَلُّمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ الْمُرَادُ مِنْهُ إِخْرَاجُ مَالٍ، ثُمَّ إِنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ عَلَى قِسْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَالْوَاجِبُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ وَجَبَ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً، كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِخْرَاجِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَقِسْمٌ لَمْ يَجِبْ إِلَّا إِذَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مِثْلُ النُّذُورِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، فَقَوْلُهُ: لَنَصَّدَّقَنَّ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كذلك؟

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 106
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست