responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 489
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَّمَهُمْ إِذَا الْتَقَوْا بِالْفِئَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَدَبِ: الْأَوَّلُ: الثَّبَاتُ وَهُوَ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى اللِّقَاءِ وَلَا يُحَدِّثُوهَا بِالتَّوَلِّي. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الذِّكْرِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونُوا بِقُلُوبِهِمْ ذَاكِرِينَ اللَّه وَبِأَلْسِنَتِهِمْ ذَاكِرِينَ اللَّه. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّه أَوْلِيَاءَهُ بِذِكْرِهِ فِي أَشَدِّ أَحْوَالِهِمْ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلِيَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّه، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ يُنْفِقُ الْأَمْوَالَ سَخَاءً، وَالْآخَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه، كَانَ الذَّاكِرُ للَّه أَعْظَمَ أَجْرًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ الدُّعَاءُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقَاتَلَةَ الْكَافِرِ إِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى بَذْلِ الرُّوحِ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنْ غَلَبَ الْخَصْمَ فَازَ بِالثَّوَابِ وَالْغَنِيمَةِ، وَإِنْ صَارَ مَغْلُوبًا فَازَ بِالشَّهَادَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ لَا للَّه بَلْ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الثَّبَاتَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِآيَةِ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ.
قُلْنَا: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الثَّبَاتَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الثَّبَاتِ الْجِدُّ فِي الْمُحَارَبَةِ. وَآيَةُ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ لَا تَقْدَحُ فِي حُصُولِ الثَّبَاتِ فِي الْمُحَارَبَةِ بَلْ كَانَ الثَّبَاتُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ، لِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ التَّمَسُّكِ بِسَائِرِ الطَّاعَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النِّزَاعَ يُوجِبُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ حُصُولَ الْفَشَلِ وَالضَّعْفِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالرِّيحِ الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتِ الدَّوْلَةُ وَقْتَ نَفَاذِهَا وَتَمْشِيَةِ أَمْرِهَا بِالرِّيحِ وَهُبُوبِهَا. يُقَالُ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ، إِذَا دَانَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ ونفد أَمْرُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ نَصْرٌ إِلَّا بِرِيحٍ يَبْعَثُهَا اللَّه، وَفِي الْحَدِيثِ «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تَنَازُعَهُمْ مُؤَثِّرًا فِي ذَهَابِ الرِّيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَا يُؤَثِّرُ فِي هُبُوبِ الصَّبَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أَيْ نُصْرَتُكُمْ، وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ حِينَ تَنَازَعُوا يوم أحد.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 489
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست