responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 455
الْحُكْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّه تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قِسْمَانِ: الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ: هِيَ الصِّفَاتُ الْقَلْبِيَّةُ وَالْأَحْوَالُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الْخَوْفُ وَالْإِخْلَاصُ وَالتَّوَكُّلُ. وَالِاثْنَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ هُمَا الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْأَخْلَاقُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ تَأْثِيرَاتٌ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ، وَفِي تَنْوِيرِهِ بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ كُلَّمَا كَانَ أَقْوَى كَانَتِ الْآثَارُ أَقْوَى وَبِالضِّدِّ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ. كَانَتِ الْمَعَارِفُ أَيْضًا لَهَا دَرَجَاتٌ وَمَرَاتِبُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالثَّوَابُ الْحَاصِلُ فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ/ الرُّوحَانِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْمَفْضُولَ إِذَا عَلِمَ حُصُولَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ لِلْفَاضِلِ وحرمانه عنها، فإنه يتألم قلبه، ويتنغض عَيْشُهُ. وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِكَوْنِ الثَّوَابِ رِزْقًا كَرِيمًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي سَعَادَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَمْنَعُهُ مِنْ حُصُولِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ لَا تُنَاسِبُ أَحْوَالَ الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّه عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَمِنَ الرِّزْقِ الْكَرِيمِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: أَمَّا كَوْنُهُ رِزْقًا كَرِيمًا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ خَالِصَةً دَائِمَةً مَقْرُونَةً بِالْإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ الثَّوَابِ. وَقَالَ الْعَارِفُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ إِزَالَةُ الظُّلُمَاتِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه، وَمِنَ الرِّزْقِ الْكَرِيمِ الْأَنْوَارُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَمَحَبَّتِهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَرِيمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحْمَدُ وَيُسْتَحْسَنُ، وَالْكَرِيمُ الْمَحْمُودُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، واللَّه تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ وَالْقُرْآنُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْلِ: 29] وَقَالَ:
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشعراء: 7 لقمان: 10] وَقَالَ: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النِّسَاءِ: 31] وَقَالَ: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الْإِسْرَاءِ: 23] فَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ هُوَ الشَّرِيفُ الْفَاضِلُ الْحَسَنُ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَهَنَاءِ الْعَيْشِ، وَأَقُولُ يجب هاهنا أَنَّ نُبَيِّنَ أَنَّ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةَ أَكْمَلُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرِّزْقَ الْكَرِيمَ هُوَ اللَّذَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّه وَمَحَبَّتُهُ وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي عُبُودِيَّتِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ وَبِالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَأَدَاءِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 455
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست