responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 405
ذَلِكَ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ وَالرِّفْعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ أَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْإِخْلَادِ اللُّزُومُ عَلَى/ الدَّوَامِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَزِمَ الْمَيْلُ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ، إِذَا لَزِمَ الْإِقَامَةَ بِهِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ سُوِيدٍ:
بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ ... وَعَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ يُرِيدُ مَالَ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِالدُّنْيَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
سَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَهَؤُلَاءِ فَسَّرُوا الْأَرْضَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا هِيَ الْأَرْضُ، لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْعَقَارِ وَالضِّيَاعِ وَسَائِرِ أَمْتِعَتِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى وَيَكْمُلُ بِهَا، فَالدُّنْيَا كُلُّهَا هِيَ الْأَرْضُ، فَصَحَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْأَرْضِ، وَنَقُولُ: لَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَقِيلَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا جَرَمَ أُقِيمَ مُقَامَهُ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ هَواهُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِمَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الْآيَاتِ وَاتَّبَعَ الْهَوَى، فَلَا جَرَمَ وَقَعَ فِي هَاوِيَةِ الرَّدَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الْآيَاتِ عَلَى أَصْحَابِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ خَصَّ هَذَا الرَّجُلَ بِآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَعَلَّمَهُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَخَصَّهُ بِالدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَةِ، لَمَّا اتَّبَعَ الْهَوَى انْسَلَخَ مِنَ الدِّينِ وَصَارَ فِي دَرَجَةِ الْكَلْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعَمُ اللَّه فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهُدَى وَأَقْبَلَ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، كَانَ بُعْدُهُ عَنِ اللَّه أَعْظَمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا، وَلَمْ يَزْدَدْ هُدًى لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّه إِلَّا بُعْدًا»
أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قال الليث: هو اللَّهْثُ هُوَ أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا نَالَهُ الْإِعْيَاءُ عِنْدَ شِدَّةِ الْعَدْوِ وَعِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِنَّهُ يُدْلِعُ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ مَا وَقَعَ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْكَلْبِ اللَّاهِثِ، وَأَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْكَلْبُ، وَأَخَسُّ الْكِلَابِ هُوَ الْكَلْبُ اللَّاهِثُ، فَمَنْ آتَاهُ اللَّه الْعِلْمَ وَالدِّينَ فَمَالَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، كَانَ مُشَبَّهًا بِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ الْكَلْبُ اللاهث، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه: لأول: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إِلَّا الْكَلْبَ اللَّاهِثَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْإِعْيَاءِ، وَفِي حَالِ الرَّاحَةِ، وَفِي حَالِ الْعَطَشِ، وَفِي حَالِ الرِّيِّ، فَكَانَ ذَلِكَ عَادَةً مِنْهُ وَطَبِيعَةً، وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَيْهِ كعادته الأصلية، وطبيعة الْخَسِيسَةِ، لَا لِأَجْلِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ آتاه اللَّه العلم والدين أغناه عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَوْسَاخِ أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَمِيلُ إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَيُلْقِي نَفْسَهُ فِيهَا، كَانَتْ حَالُهُ كَحَالِ ذَلِكَ اللَّاهِثِ، حَيْثُ وَاظَبَ عَلَى الْعَمَلِ الْخَسِيسِ، وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، لِمُجَرَّدِ نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ. وَطَبِيعَتِهِ الْخَسِيسَةِ، لَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ إِذَا تَوَسَّلَ/ بِعِلْمِهِ إِلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، فَذَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُورِدُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ عُلُومِهِ وَيُظْهِرُ عِنْدَهُمْ فَضَائِلَ نَفْسِهِ وَمَنَاقِبَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَتَقْرِيرِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ يُدْلِعُ لِسَانَهُ، وَيُخْرِجُهُ لِأَجْلِ مَا تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ مِنْ حَرَارَةِ الْحِرْصِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ إِلَى الْفَوْزِ بِالدُّنْيَا، فَكَانَتْ حَالَتُهُ شَبِيهَةً بِحَالَةِ ذَلِكَ الْكَلْبِ الَّذِي أَخْرَجَ لِسَانَهُ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الطَّبِيعَةِ الْخَسِيسَةِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلْبَ اللَّاهِثَ لَا يَزَالُ لَهْثُهُ الْبَتَّةَ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْحَرِيصُ لَا يَزَالُ حِرْصُهُ الْبَتَّةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَلْبَ إِنْ شُدَّ عَلَيْهِ وَهُيِّجَ لَهَثَ وَإِنْ تُرِكَ أَيْضًا

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 405
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست