responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 9
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: قُرْبُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، بَلِ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مُشَاهَدَةُ الْأَحْوَالِ الَّتِي عِنْدَهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ باللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمَاتَهُمُ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ أَحْيَاهُمْ مِثْلَ قَوْمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْمَوْتِ لَا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ.
الثَّانِي: أَنَّ الشَّدَائِدَ الَّتِي يَلْقَاهَا مَنْ يَقْرُبُ مَوْتُهُ تَكُونُ مِثْلَ الشَّدَائِدِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْقُولَنْجِ، وَمِثْلَ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَلْقَاهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ الطَّلْقِ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشَّدَائِدُ مَانِعَةً مِنْ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ. الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا عَظُمَتِ الْآلَامُ صَارَ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ أَشَدَّ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النَّمْلِ: 62] فَتَزَايُدُ الْآلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنْ يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يَكُونَ سَبَبًا لِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَنَفْسَ تَزَايُدِ الْآلَامِ وَالْمَشَاقِّ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَنَقُولُ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا شَاهَدَ أَحْوَالًا وَأَهْوَالًا صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَمَتَى صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ باللَّه ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَمَّا صَارَتْ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا عِقَابٌ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَقَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، لَا تكون مقبولة.
واعلم أن هاهنا بَحْثًا عَمِيقًا أُصُولِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَاهِدُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَمْوَاتًا، وَيُشَاهِدُونَ أَيْضًا النَّارَ الْعَظِيمَةَ وَأَصْنَافَ الْأَهْوَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه ضَرُورِيًّا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ حُصُولَ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً يَحْتَاجُ إِلَى الْفَاعِلِ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ عِنْدَ أَكْثَرِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْعِلْمُ ضَرُورِيٌّ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اللَّه لَا شَكَّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ النِّيرَانِ الْعَظِيمَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَهَذَا/ أَيْضًا اسْتِدْلَالِيٌّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لِأَجْلِ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِهَا يَعْرِفُونَ اللَّه بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ باللَّه إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا مَنَعَ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ عِلْمِهِ الضَّرُورِيِّ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْمُثِيبِ الْمُعَاقِبِ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَنْبُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ زَوَالَ التَّكْلِيفِ وَأَيْضًا: فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه فِي دَارِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإِذَا صَارَ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ: كَلَامٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ باللَّه إِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا فِي قَلْبِهِ، فَهَذَا يَكُونُ ظَنًّا لَا عِلْمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ قَائِمًا، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ وَآكَدَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى الْبَتَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ كَلِمَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، فَهُوَ بِفَضْلِهِ وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَهُ أَنْ يَقْلِبَ الْأَمْرَ فَيَجْعَلَ الْمَقْبُولَ مردودا، والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 23] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قِسْمَيْنِ، فَقَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: 17] وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ فَهَذَا جَزْمٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ تَوْبَةَ هَؤُلَاءِ فَبَقِيَ بِحُكْمِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 9
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست