responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 61
بِهَا ثَوَابًا، ثُمَّ أَتَى بِمَعْصِيَةٍ وَاسْتَحَقَّ بِهَا عِقَابًا، فَهَهُنَا الْحَالُ بَيْنَ ثَوَابِ الطَّاعَةِ وَعِقَابِ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَادَلَا وَيَتَسَاوَيَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا بِحَسَبِ التَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشُّورَى: 7] وَلَوْ وُجِدَ مِثْلُ هَذَا الْمُكَلَّفِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي السَّعِيرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ طَاعَتِهِ أَزْيَدُ مِنْ عِقَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الثَّوَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّكْفِيرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِقَابُ مَعْصِيَتِهِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَبِطُ ذَلِكَ الثَّوَابُ بِمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الْعِقَابِ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْعِقَابِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ هِيَ الْكَبِيرَةُ، وَهَذَا الِانْحِبَاطُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِحْبَاطِ، وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَبَيْنَ الصَّغِيرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَنَا. أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ ثَوَابًا وَالْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ عِقَابًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَاضِعِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ/ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّه فِيهِ دَاعِيَةً تُوجِبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ الطَّاعَةِ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ، وَكَوْنُ الْمَعْصِيَةِ مُوجِبَةً لِلْعِقَابِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِتَوْحِيدِ اللَّه وَتَقْدِيسِهِ وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، فَإِنَّ ثَوَابَ مَجْمُوعِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ عِقَابِ شُرْبِ قَطْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ شُرْبَ هَذِهِ الْقَطْرَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ أَصَرُّوا وَقَالُوا: بَلْ عِقَابُ شُرْبِ هَذِهِ الْقَطْرَةِ أَزْيَدُ مِنْ ثَوَابِ التَّوْحِيدِ وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أَبْطَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَصْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَبْنُونَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى قَاعِدَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُتَقَرِّرَةِ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ جَعَلَ عِقَابَ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْجِنَايَةِ أَزْيَدَ مِنْ ثَوَابِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَإِنْ دَفَعُوا حُكْمَ الْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَقَدْ أَبْطَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْقَوْلَ بِتَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى كَثِيرَةٌ وَسَابِقَةٌ عَلَى طَاعَاتِ الْعَبِيدِ، وَتِلْكَ النِّعَمُ السَّابِقَةُ مُوجِبَةٌ لِهَذِهِ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ أَدَاءٌ لِمَا وَجَبَ بِسَبَبِ النِّعَمِ السَّابِقَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا آخَرَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَاتِ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ يُؤْتَى بِهَا فَإِنَّ عِقَابَهَا يَكُونُ أَزْيَدُ مِنْ ثَوَابِ فَاعِلِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي كَبَائِرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا بَاطِلٌ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ وباللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَلْ مَيَّزَ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ أَمْ لَا؟ فَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُمَيِّزْ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ عَنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الِاجْتِنَابَ عَنِ الْكَبَائِرِ يُوجِبُ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ، فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَيْسَتْ إِلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْمَخْصُوصَةَ، عَرَفَ أَنَّهُ مَتَى احْتَرَزَ عَنْهَا صَارَتْ صَغَائِرُهُ مُكَفِّرَةً فَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً لَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى تِلْكَ الصَّغَائِرِ، وَالْإِغْرَاءُ بِالْقَبِيحِ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْلَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمَيِّزِ اللَّه تَعَالَى كُلَّ الْكَبَائِرِ عَنْ كُلِّ الصَّغَائِرِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ، وَلَا ذَنْبَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا وَيَجُوزُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 61
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست