responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 6
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ مِنْ بَابِ الْكَرَاهَاتِ وَالْإِرَادَاتِ، وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِرَادَةُ لَا يَحْصُلَانِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا افْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِهِمَا إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ هَذَا النَّدَمِ وَهَذَا الْعَزْمِ بِمَحْضِ تَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَفِعْلُ اللَّه لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه فِعْلًا آخَرَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ بَاطِلٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَلَى قَوْلِهِمْ، فَلَوْ صَارَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّه لَصَارَ فِعْلُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرًا فِي ذَاتِ اللَّه وَفِي صِفَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا وَعَدَ اللَّه بِشَيْءٍ وَكَانَ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْوَاجِبِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ إِطْلَاقُ كَلِمَةِ «عَلَى» وَبِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
إِنْ قِيلَ: فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا.
قُلْنَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْإِيقَاعِ، وَالتَّبَعُ لَا يُغَيِّرُ الْأَصْلَ، فَكَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا فِي ذَلِكَ الْإِيقَاعِ. أَمَّا أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِأَنَّ وُقُوعَ التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ/ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَنْبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقَابًا، لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّمَا» لِلْحَصْرِ، فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى السُّوءِ مَعَ الْعِلْمِ بكونه سوأ أَنْ لَا تَكُونَ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً، وَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا ذَنْبًا مَعَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً يَكُونُ حَالُهُ أَخَفَّ مِمَّنْ أَتَى بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ خَصَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ بِوُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوبًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَمَّا كَانَ ذَنْبُهُمْ أَغْلَظَ لَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ هَذَا التَّأْكِيدَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
وَإِذَا عَرَفْتَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فَلْنَذْكُرِ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْجَهَالَةِ.
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه سُمِّيَ جَاهِلًا وَسُمِّيَ فِعْلُهُ جَهَالَةً، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُفَ: 33] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: 89] وقال تعالى: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هُودٍ: 46]

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 6
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست