responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 133
أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الصِّفَةِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ/ أَيْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّه فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَطَاعَةُ اللَّه فِي كَوْنِهِ إِلَهًا هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِقْرَارُ بِجَلَالِهِ وَعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَعَادِ، فَالْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَنْشَأَ جَمِيعِ السَّعَادَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِشْرَاقُ الرُّوحِ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ اللَّه، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْوَارُ فِي قَلْبِهِ أَكْثَرَ، وَصَفَاؤُهَا أَقْوَى، وَبُعْدُهَا عَنِ التَّكَدُّرِ بِمَحَبَّةِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ أَتَمَّ كَانَ إِلَى السَّعَادَةِ أَقْرَبَ وَإِلَى الْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ أَوْصَلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعْدَ أَهْلِ الطَّاعَةِ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعْدَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ بِهِ فِي الْخَتْمِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ وَأَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، لِأَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْوَاحَ النَّاقِصَةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ عَلَائِقَهَا مَعَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ فِي الدُّنْيَا لِسَبَبِ الْحُبِّ الشَّدِيدِ، فَإِذَا فَارَقَتْ هَذَا الْعَالَمَ وَوَصَلَتْ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ بَقِيَتْ تِلْكَ الْعَلَائِقُ الرُّوحَانِيَّةُ هُنَاكَ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ الصَّافِيَةُ كَالْمَرَايَا الْمَجْلُوَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْمَرَايَا يَنْعَكِسُ الشُّعَاعُ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الِانْعِكَاسَاتِ تَصِيرُ أَنْوَارُهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَجْلُوَّةً بِصِقَالَةِ الْمُجَاهَدَةِ عَنْ غُبَارِ حُبِّ مَا سِوَى اللَّه، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ طَاعَةِ اللَّه وَطَاعَةِ الرَّسُولِ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الْحُجُبُ الْجَسَدَانِيَّةُ أَشْرَقَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ جَلَالِ اللَّه، ثُمَّ انْعَكَسَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَصَارَتِ الْأَرْوَاحُ النَّاقِصَةُ كَامِلَةً بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَلَائِقِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ خَطَرَ بِالْبَالِ واللَّه أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَأَطَاعَ الرَّسُولَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، كَوْنَ الْكُلِّ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي الدَّرَجَةِ بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ بَعُدَ الْمَكَانُ، لِأَنَّ الْحِجَابَ إِذَا زَالَ شَاهَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِذَا أَرَادُوا الزِّيَارَةَ وَالتَّلَاقِيَ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَوْصَافًا ثَلَاثَةً: الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيِّينَ مُغَايِرُونَ لِلصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَأَمَّا هَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وَشَهِيدًا وَصَالِحًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ/ بِكُلِّ وَصْفٍ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَمَا أَنَّ النَّبِيِّينَ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ، فَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَلْنَبْحَثْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: الصِّدِّيقُ: وَهُوَ اسْمٌ لِمَنْ عَادَتُهُ الصِّدْقُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِ فِعْلٌ إِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قِيلَ فِيهِ فِعِّيلٌ، كَمَا يُقَالُ: سِكِّيرٌ وَشِرِّيبٌ وَخِمِّيرٌ، وَالصِّدْقُ صِفَةٌ كَرِيمَةٌ فَاضِلَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَفَى الصِّدْقَ فَضِيلَةً أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ إِلَّا التَّصْدِيقُ، وَكَفَى الْكَذِبُ مَذَمَّةً أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ إِلَّا التَّكْذِيبُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الصِّدِّيقِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الدِّينِ لَا يَتَخَالَجُهُ فِيهِ شَكٌّ فَهُوَ صِدِّيقٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: 19] .

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 10  صفحة : 133
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست