responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 26
سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِلْآمِرِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا وَاحِدًا. قَادِرًا عَلَى مَقْدُورَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، عَالِمًا بِمَعْلُومَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ عِبَادَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلَائِقِ طَاعَتُهُ وَالِانْقِيَادُ لِتَكَالِيفِهِ- فَإِنَّهُ/ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِلَوَازِمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَقَامِ الْمَذْكُورِ لَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ أَقْسَامِ تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجَمِيعُ مَا صُنِّفَ فِي الدِّينِ مَنْ «كُتُبِ الْفِقْهِ» يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ، ثُمَّ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ تَكَالِيفُ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ الشَّرَائِعِ الَّتِي قَدْ كَانَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَيْضًا يَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَائِعُ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا مَلَائِكَتَهُ فِي السموات مُنْذُ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَأَمَرَهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَأَيْضًا «فَكُتُبُ الْفِقْهِ» مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَرْحِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، أَمَّا أَقْسَامُ التَّكَالِيفِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَهِيَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَهِيَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا «كُتُبُ الْأَخْلَاقِ» ، و «كتب السِّيَاسَاتِ» ، بِحَسَبِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأُمَمِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرَ الْإِنْسَانُ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَعَلِمَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهَا كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ الَّذِي لَا تَصِلُ الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ إِلَّا إِلَى الْقَلِيلِ مِنْهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْهِدَايَةِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ، وَالثَّانِي: بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَالرِّيَاضَةِ، أَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهَا غير متناهية لأنها لَا ذَرَّةَ مِنْ ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ إِلَّا وَتِلْكَ الذَّرَّةُ شَاهِدَةٌ بِكَمَالِ إِلَهِيَّتِهِ، وَبِعِزَّةِ عِزَّتِهِ، وَبِجَلَالِ صَمَدِيَّتِهِ، كَمَا قِيلَ: -
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي مَاهِيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ، وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ، وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالْأَحْوَالُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَاصُ كُلِّ جِسْمٍ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لِأَجْلِ الْجِسْمِيَّةِ أَوْ لَوَازِمِ الْجِسْمِيَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِنْ كَانَ جِسْمًا عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا، بَلْ كَانَ تَأْثِيرُهُ بِالْفَيْضِ وَالطَّبْعِ عَادَ الْإِلْزَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِوَاءِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ واحد من ذرات السموات وَالْأَرْضِ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَمُخْبِرٌ نَاطِقٌ، بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْوَالِدُ ضِيَاءُ الدِّينِ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ أَنْوَاعًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ فَرْدٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا اتِّصَافُهُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ/ عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ الْوُقُوعِ يَدُلُّ عَلَى الِافْتِقَارِ إِلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَبَاحِثِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ. وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْهِدَايَةِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصْفِيَةِ فَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْهَجٌ خاص، ومشرب معين، كما قال: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[البقرة: 148] وَلَا وُقُوفَ لِلْعُقُولِ عَلَى تِلْكَ الْأَسْرَارِ، وَلَا خَبَرَ عِنْدَ الْأَفْهَامِ مِنْ مَبَادِئِ مَيَادِينِ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَالْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ لَحَظُوا فِيهَا مَبَاحِثَ عَمِيقَةً، وَأَسْرَارًا دَقِيقَةً، قَلَّمَا تَرْقَى إِلَيْهَا أَفْهَامُ الْأَكْثَرِينَ.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 26
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست