responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 215
وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ أَوَّلُ كَلَامِ عِيسَى ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ الرِّفْعَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرافِعُكَ إِلَيَّ، [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَالنُّكْتَةُ أَنَّ الَّذِي ادَّعَى الْعُبُودِيَّةَ بِالْقَوْلِ رُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالَّذِي يَدَّعِيهَا بِالْعَمَلِ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يَبْقَى مَحْرُومًا عَنِ الْجَنَّةِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طَهَ: 14] أَمَرَهُ بِعْدَ التَّوْحِيدِ بِالْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَ التَّوْحِيدَ أَصْلٌ، وَالْعُبُودِيَّةَ فَرْعٌ، وَالتَّوْحِيدُ شَجَرَةٌ، وَالْعُبُودِيَّةُ ثَمَرَةٌ، وَلَا قِوَامَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِالْآخَرِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةٌ عَلَى شَرَفِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُحْدَثٌ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَلَوْلَا تَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْحَقِّ فِيهِ لَبَقِيَ فِي ظُلْمَةِ الْعَدَمِ وَفِي فَنَاءِ الْفَنَاءِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْوُجُودُ فَضْلًا عَنْ كَمَالَاتِ الْوُجُودِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ الْحَقِّ بِهِ وَفَاضَتْ عَلَيْهِ آثَارُ جُودِهِ وَإِيجَادِهِ حَصَلَ لَهُ الْوُجُودُ وَكَمَالَاتُ الْوُجُودِ وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَقْدُورَ قُدْرَةِ الْحَقِّ وَلِكَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ إِيجَادِ الْحَقِّ إِلَّا الْعُبُودِيَّةُ، فَكُلُّ شَرَفٍ وَكَمَالٍ وَبَهْجَةٍ وَفَضِيلَةٍ وَمَسَرَّةٍ وَمَنْقَبَةٍ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْعُبُودِيَّةِ، فَثَبَتَ أَنَ الْعُبُودِيَّةَ مِفْتَاحُ الْخَيْرَاتِ، وَعُنْوَانُ السَّعَادَاتِ، وَمَطْلَعُ الدَّرَجَاتِ، وَيَنْبُوعُ الْكَرَامَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْعَبْدُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ،
وَكَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَقُولُ: (كَفَى بِي فَخْرًا أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْدًا، وَكَفَى بِي شَرَفًا أَنْ تَكُونَ لِي رَبًّا، اللَّهُمَّ إِنِّي وَجَدْتُكَ إِلَهًا كَمَا أَرَدْتَ فَاجْعَلْنِي عَبْدًا كَمَا أَرَدْتَ) .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقَامَاتِ مَحْصُورَةٌ فِي مَقَامَيْنِ: مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْصُلُ الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] أَمَّا مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكَمَالُهَا مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فَكَوْنُ الْعَبْدِ/ مُنْتَقِلًا مِنَ الْعَدَمِ السَّابِقِ إِلَى الْوُجُودِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا، وَحُصُولُ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ لِلْعَبْدِ حَالَ وُجُودِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَبًّا رَحْمَانًا رَحِيمًا، وَأَحْوَالُ مَعَادِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، وَعِنْدَ الْإِحَاطَةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَصَلَتْ مَعْرِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَبَعْدَهَا جَاءَتْ مَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَهَا مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ، وَأَوَّلُ وَآخِرُ، أَمَّا مَبْدَؤُهَا وَأَوَّلُهَا فَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ، بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَمَّا كَمَالُهَا فهو أن يعرف العبد أَنَّهُ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِاللَّهِ فِي تَحْصِيلِ كُلِّ الْمَطَالِبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَلَمَّا تَمَّ الْوَفَاءُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْفَائِدَةِ وَالثَّمَرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهَذَا تَرْتِيبٌ شَرِيفٌ رَفِيعٌ عَالٍ يَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ حُصُولُ تَرْتِيبٍ آخَرَ أَشْرَفَ مِنْهُ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كُلُّهُ مَذْكُورٌ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَقَوْلُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ انْتِقَالٌ مِنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْخِطَابِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ كَانَ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا جَرَمَ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِأَلْفَاظِ الْمُغَايَبَةِ إِلَى قَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ حَمِدْتَنِي وَأَقْرَرْتَ بِكَوْنِي إِلَهًا رَبًّا رَحْمَانًا رَحِيمًا مَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ قَدْ رَفَعْنَا الْحِجَابَ وَأَبْدَلْنَا الْبُعْدَ بِالْقُرْبِ فَتَكَلَّمْ بِالْمُخَاطَبَةِ وَقُلْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ أَحْسَنَ السُّؤَالِ مَا وَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلُوا رَبَّهُمْ شَافَهُوهُ بِالسُّؤَالِ فَقَالُوا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ، ورَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [آل عمران: 147] ، ورَبِّ هَبْ لِي

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 215
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست