responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 213
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِلْعَبْدِ لَمَّا أَثْنَيْتَ عَلَيْنَا بِقَوْلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَفَوَّضْتَ إِلَيْنَا جَمِيعَ مَحَامِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَنَا وَتَمَكَّنَتْ مَنْزِلَتُكَ فِي حَضْرَتِنَا، فَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى إِصْلَاحِ مُهِمَّاتِكَ وَحْدَكَ، وَلَكِنْ أَصْلِحْ حَوَائِجَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي مَا بَلَغَتْ عِبَادَتِي إِلَى حَيْثُ أَسْتَحِقُّ أَنْ أَذْكُرَهَا وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِجِهَاتِ التَّقْصِيرِ، وَلَكِنِّي أَخْلِطُهَا بِعِبَادَاتِ جَمِيعِ الْعَابِدِينَ، وَأَذْكُرُ الْكُلَّ بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ وأقول إياك نعبد.
وهاهنا مَسْأَلَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ عَشَرَةً مِنَ الْعَبِيدِ فَالْمُشْتَرِي إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْكُلَّ، أَوْ لَا يَقْبَلَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فِي تِلْكَ الصَّفْقَةِ فَكَذَا هُنَا إِذَا قالت الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَقَدْ عَرَضَ عَلَى حَضْرَةِ اللَّهِ جَمِيعَ عِبَادَاتِ الْعَابِدِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِهِ أَنْ يُمَيِّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ وَيَقْبَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ وَهُوَ غَيْرُ/ جَائِزٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ دَخَلَ فِيهِ عِبَادَاتُ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ الْكُلَّ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ عِبَادَةُ هَذَا الْقَائِلِ مَقْبُولَةً بِبَرَكَةِ قَبُولِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي إِنْ لَمْ تَكُنْ عِبَادَتِي مَقْبُولَةً فَلَا تَرُدَّنِي لِأَنِّي لَسْتُ بِوَحِيدٍ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ بَلْ نَحْنُ كَثِيرُونَ فَإِنْ لَمْ أَسْتَحِقَّ الْإِجَابَةَ وَالْقَبُولَ فَأَتَشَفَّعُ إِلَيْكَ بِعِبَادَاتِ سَائِرِ الْمُتَعَبِّدِينَ فَأَجِبْنِي.
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ عَرَفَ فَوَائِدَ الْعِبَادَةِ طَابَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِهَا، وَثَقُلَ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِهَا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ، وَأَكْمَلُ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ وَأَقْوَاهَا فِي كَوْنِهَا سَعَادَةً اشْتِغَالُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَنِيرُ قَلْبُهُ بِنُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَيَتَشَرَّفُ لِسَانُهُ بِشَرَفِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَتَتَجَمَّلُ أَعْضَاؤُهُ بِجَمَالِ خِدْمَةِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ أَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَعْظَمَ السَّعَادَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِأَكْمَلِ السَّعَادَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ زَالَ عَنْهُ ثِقَلُ الطَّاعَاتِ وَعَظُمَتْ حَلَاوَتُهَا فِي قَلْبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعِبَادَةَ أَمَانَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الْأَحْزَابِ: 72]- الآية وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النِّسَاءِ: 58] وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ بِالذَّاتِ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ سَبَبٌ لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ مِنَ الْجَانِبِ الثَّانِي، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: رَأَيْتُ أَعْرَابِيًّا أَتَى بَابَ الْمَسْجِدِ فَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ وَتَرَكَهَا وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَدَعَا بِمَا شَاءَ، فَتَعَجَّبْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْ نَاقَتَهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَدَّيْتُ أَمَانَتَكَ فَأَيْنَ أَمَانَتِي؟ قَالَ الرَّاوِي فَزِدْنَا تَعَجُّبًا، فَلَمْ يَمْكُثْ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَتِهِ وَقَدْ قُطِعَ يَدُهُ وَسَلَّمَ النَّاقَةَ إِلَيْهِ، وَالنُّكْتَةُ أَنَّهُ لَمَّا حَفِظَ أَمَانَةَ اللَّهِ حَفِظَ اللَّهُ أَمَانَتَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ فِي الْخَلَوَاتِ يَحْفَظْكَ فِي الْفَلَوَاتِ» .
الثَّالِثُ: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِبَادَةِ انْتِقَالٌ مِنْ عَالَمِ الْغُرُورِ إِلَى عَالَمِ السُّرُورِ، وَمِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى حَضْرَةِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ: يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَيَّةً سَقَطَتْ مِنَ السَّقْفِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا، وَوَقَعَتِ الْآكِلَةُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى قَطْعِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، فَلَمَّا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ قَطَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ الْعُضْوَ فَلَمْ يَشْعُرْ عُرْوَةَ بِذَلِكَ الْقَطْعِ،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ حِينَ يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ صَدْرِهِ، أَزِيزًا كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ،
وَمَنِ اسْتَبْعَدَ هَذَا فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يُوسُفَ: 31] فَإِنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِنَّ جَمَالُ يوسف

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 213
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست