responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 150
فَإِنَّهَا إِنْ زَالَتْ عَنِ الْقَلْبِ لَحْظَةً وَاحِدَةً مَاتَ الْقَلْبُ، وَاسْتَوْجَبَ عَذَابَ الْأَبَدِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ نَافِعًا وَلَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا- فَهُوَ كَالْمَالِ فِي الدُّنْيَا وَكَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ- وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَلَا يَكُونُ نَافِعًا- فَكَالْمَضَارِّ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا:
كَالْأَمْرَاضِ، وَالْمَوْتِ، وَالْفَقْرِ، وَالْهَرَمِ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا الْقِسْمِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَضَارِّ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ- وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ نَافِعًا وَلَا ضَرُورِيًّا- فَهُوَ كَالْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفَسَ فِي الدُّنْيَا نَافِعٌ وَضَرُورِيٌّ فَلَوِ انْقَطَعَ عَنِ الْإِنْسَانِ لَحْظَةً لَمَاتَ فِي الْحَالِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَوْ زَالَتْ عَنِ الْقَلْبِ لَحْظَةً لَمَاتَ الْقَلْبُ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ أَسْهَلُ مِنَ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ فِي الْمَوْتِ الْأَوَّلِ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْمَوْتُ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَبْقَى أَلَمُهُ أَبَدَ الْآبَادِ، وَكَمَا أَنَّ التَّنَفُّسَ لَهُ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِدْخَالُ النَّسِيمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْقَلْبِ وَإِبْقَاءُ اعْتِدَالِهِ وَسَلَامَتِهِ، وَالثَّانِي: إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ الْفَاسِدِ الْحَارِّ الْمُحْتَرِقِ عَنِ الْقَلْبِ، كَذَلِكَ الْفِكْرُ لَهُ أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا: إِيصَالُ نَسِيمِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى الْقَلْبِ وَإِبْقَاءُ اعْتِدَالِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ الْفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الشُّبُهَاتِ عَنِ الْقَلْبِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِأَنْ يُعْرَفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ مُتَنَاهِيَةٌ فِي مَقَادِيرِهَا مُنْتَهِيَةٌ بِالْآخِرَةِ إِلَى الْفَنَاءِ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ آمِنًا مِنَ الْآفَاتِ وَاصِلًا إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، وَكَمَالُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَنْكَشِفُ لِعَقْلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَدْتَهُ وَوَصَلْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ قَطْرَةٌ مِنْ بِحَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَذَرَّةٌ مِنْ أَنْوَارِ إِحْسَانِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَنْفَتِحُ عَلَى قَلْبِكَ مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَانًا رَحِيمًا.
فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى التَّفْصِيلِ فَاعْلَمْ أَنَّكَ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ نَفْسٍ، وَبَدَنٍ وَرُوحٍ، وَجَسَدٍ.
(أَمَّا نَفْسُكَ) فَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ جَاهِلَةً فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النمل: 78] ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي مَرَاتِبِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةِ وَالْمُحَرِّكَةِ وَالْمُدْرِكَةِ وَالْعَاقِلَةِ، وَتَأَمَّلْ فِي مَرَاتِبِ الْمَعْقُولَاتِ وَفِي جِهَاتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَوْ أَنَّ الْعَاقِلَ أَخَذَ فِي اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِالْمَعْقُولَاتِ وَسَرَى فِيهَا سَرَيَانَ الْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَالرِّيحِ الْعَاصِفِ وَبَقِيَ فِي ذَلِكَ السَّيْرِ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ لَكَانَ الْحَاصِلُ لَهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ قَدْرًا مُتَنَاهِيًا، وَلَكَانَتِ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي مَا عَرَفَهَا وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا أَيْضًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْمُتَنَاهِي فِي جَنْبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] حُقٌّ وَصِدْقٌ.
(وَأَمَّا بَدَنُكَ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ، فَتَأَمَّلْ كَيْفِيَّةَ تَرْكِيبِهَا وَتَشْرِيحِهَا، وَتَعَرَّفْ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَالِيَةِ وَالْآثَارِ الشَّرِيفَةِ/ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَكَ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَحِينَئِذٍ يَنْجَلِي لَكَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ كَمَالِ رَحْمَتِهِ فِي خَلْقِكَ وَهِدَايَتِكَ، فَتَفْهَمُ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ الرحمن الرحيم.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 150
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست