responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 147
فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِاحْتِجَابِ نُورِهِ إِلَّا كَمَالُ نُورِهِ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: سُبْحَانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ بِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ/ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّمَدِيَّةِ مُحْتَجِبَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَحْجُوبَةٌ لِأَنَّ الْمَحْجُوبَ مَقْهُورٌ، وَالْمَقْهُورُ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ، أَمَّا الْحَقُّ فَقَاهِرٌ، وَصِفَةُ الِاحْتِجَابِ صِفَةُ الْقَهْرِ فَالْحَقُّ مُحْتَجِبٌ، وَالْخَلْقُ مَحْجُوبُونَ.
التَّفْسِيرُ السَّابِعُ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ الْفَصِيلُ إِذَا وَلِعَ بِأُمِّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَ مُولَهُونَ مُولَعُونَ بِالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي بَلَاءٍ عَظِيمٍ وَآفَةٍ قَوِيَّةٍ فَهُنَالِكَ يَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَقُولُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، فَإِذَا تَخَلَّصَ عَنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَعَادَ إِلَى مَنَازِلِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ أَخَذَ يُضِيفُ ذَلِكَ الْخَلَاصَ إِلَى الْأَسْبَابِ الضَّعِيفَةِ وَالْأَحْوَالِ الْخَسِيسَةِ، وَهَذَا فِعْلٌ مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُخَلِّصُ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُوَصِّلُ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرَ اللَّهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْبَلَاءِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مُصْلِحُ الْمُهِمَّاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا الْفَزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ عِنْدَ الرَّاحَاتِ فَلَا يَلِيقُ بِأَرْبَابِ الْهِدَايَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَيْرَ وَالرَّاحَةَ مَطْلُوبٌ مِنَ اللَّهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحْسِنَ فِي الظَّاهِرِ إِمَّا اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يُحْسِنُ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةَ الْإِحْسَانِ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُحْسِنُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُحْسِنُ مَرْجُوعٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَلْقُ مَشْغُوفُونَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ.
شَكَا بَعْضُ الْمُرِيدِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْوِسْوَاسِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: كُنْتُ حَدَّادًا عَشْرَ سِنِينَ، وَقَصَّارًا عَشَرَةً أُخْرَى، وَبَوَّابًا عَشَرَةً ثَالِثَةً، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، قَالَ: فَعَلْتُ وَلَكِنَّكُمْ مَا رَأَيْتُمْ، أَمَا عَرَفْتُمْ أَنَّ الْقَلْبَ كَالْحَدِيدِ؟
فَكُنْتُ كَالْحَدَّادِ أُلَيِّنُهُ بِنَارِ الْخَوْفِ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَعْتُ فِي غَسْلِهِ عَنِ الْأَوْضَارِ وَالْأَقْذَارِ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَلَسْتُ عَلَى بَابِ حُجْرَةِ الْقَلْبِ عَشَرَةً أُخْرَى سَالًّا سَيْفَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَلَمْ أَزَلْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ أَزَلْ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا خَلَتْ عَرْصَةُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوِيَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ سَقَطَتْ مِنْ بِحَارِ عَالَمِ الْجَلَالِ قَطْرَةٌ مِنَ النُّورِ فَغَرِقَ الْقَلْبُ فِي تِلْكَ الْقَطْرَةِ، وَفَنِيَ عَنِ الْكُلِّ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلَّا مَحْضُ سِرِّ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
التَّفْسِيرُ الثَّامِنُ: أَنَّ اشْتِقَاقَ لَفْظِ «الْإِلَهُ» مِنْ أَلِهَ الرَّجُلُ يَأْلَهُ إِذَا فَزِعَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ بِهِ فَأَلَهَهُ أَيْ أَجَارَهُ، وَالْمُجِيرُ لِكُلِّ الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ الْمَضَارِّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النَّحْلِ: 53] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُطْعِمُ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: 14] وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: 87] فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى قَهَّارٌ لِلْعَدَمِ بِالْوُجُودِ وَالتَّحْصِيلِ، جَبَّارٌ لَهَا بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّكْمِيلِ، فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ سِوَاهُ.
وَهَاهُنَا لَطَائِفُ وَفَوَائِدُ: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: عَادَةُ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ إِذَا رَأَى صَاحِبَ الدَّيْنِ مِنَ الْبُعْدِ فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُ، وَاللَّهُ الْكَرِيمُ يَقُولُ: عِبَادِي: أَنْتُمْ غُرَمَائِي بِكَثْرَةِ ذُنُوبِكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَفِرُّوا مِنِّي، بَلْ أَقُولُ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: 50] فَإِنِّي أَنَا الَّذِي أَقْضِي دُيُونَكُمْ وَأَغْفِرُ ذُنُوبَكُمْ، وَأَيْضًا الْمُلُوكُ يُغْلِقُونَ أَبْوَابَهُمْ عَنِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَأَنَا أَفْعَلُ ضِدَّ ذَلِكَ.

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 1  صفحة : 147
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست