اسم الکتاب : تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن المؤلف : السعدي، عبد الرحمن الجزء : 1 صفحة : 424
{18} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} .
يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها: إما أن المراد بها الأعمال التي عملوها لله، بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد، الذي هو أدق الأشياء وأخفها، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فإنه لا يبقى منه شيئا، ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل، فكذلك أعمال الكفار {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} ولا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر والتكذيب.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم، وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار التي عملوها ليكيدوا بها الحق، فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا.
{19 - 21} {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} .
ينبه تعالى عباده بأنه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقَّ} أي: ليعبده الخلق ويعرفوه، ويأمرهم وينهاهم وليستدلوا بهما وما فيهما على ما له من صفات الكمال، وليعلموا أن الذي خلق السماوات والأرض -على عظمهما وسعتهما- قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا، ليجازيهم بإحسانهم وإساءتهم، وأن قدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك ولهذا قال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}
يحتمل أن المعنى: إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم يكونون أطوع لله منكم، ويحتمل أن المراد أنه: إن يشأ يفنيكم ثم يعيدهم بالبعث خلقا جديدا، ويدل على هذا الاحتمال ما ذكره بعده من أحوال القيامة.
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع بل هو سهل عليه جدا، {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}
{وَبَرَزُوا} أي: الخلائق {لِلَّهِ جَمِيعًا} حين ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث إلى ربهم فيقفون في أرض مستوية قاع صفصف، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ويبرزون له لا يخفى [عليه] منهم خافية، فإذا برزوا صاروا يتحاجون، وكل يدفع عن نفسه، ويدافع ما يقدر عليه، ولكن أنى لهم ذلك؟
فيقول {الضُّعَفَاءُ} أي: التابعون والمقلدون {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم: المتبوعون الذين هم قادة في الضلال: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: في الدنيا، أمرتمونا بالضلال، وزينتموه لنا فأغويتمونا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: ولو مثقال ذرة، {قَالُوا} أي: المتبوعون والرؤساء {أغويناكم كما غوينا} و {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} فلا يغني أحد أحدا، {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا} من العذاب {أَمْ صَبَرْنَا} عليه، {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي: من ملجأ نلجأ إليه، ولا مهرب لنا من عذاب الله.
{22 - 23} {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} .
أي: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم {لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ} ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه -[425]- لأدركتم الفوز العظيم، {وَوَعَدْتُكُمْ} الخير {فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي: لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة على تأييد قولي، {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي: هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم، فإذا كانت الحال بهذه الصورة {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} كل له قسط من العذاب.
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله فلست شريكا لله ولا تجب طاعتي، {إِنَّ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم بطاعة الشيطان {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خالدين فيه أبدا.
وهذا من لطف الله بعباده، أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه، وأنه يقصد أن يدخله النيران، وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه [1] أنه يتبرأ منهم هذه البراءة، ويكفر بشركهم {ولا ينبئك مثل خبير}
واعلم أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان، وقال في آية أخرى {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل، فليس له حجة أصلا على ما يدعو إليه، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي.
وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يؤُزّهم إلى المعاصي أزّا، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه، ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
ولما ذكر عقاب الظالمين ذكر ثواب الطائعين فقال: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: قاموا بالدين، قولا وعملا واعتقادا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} فيها من اللذات والشهوات ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: لا بحولهم وقوتهم بل بحول الله وقوته {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام والتحية والكلام الطيب. [1] في ب: وجنده.
اسم الکتاب : تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن المؤلف : السعدي، عبد الرحمن الجزء : 1 صفحة : 424