responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن المؤلف : السعدي، عبد الرحمن    الجزء : 1  صفحة : 382
فامتثل أمر ربه، وجعل يصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ} ورأوا ما يصنع {سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} الآن {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} نحن أم أنتم. وقد علموا ذلك، حين حل بهم العقاب.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي: أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة، وأبعد ما يكون عن الماء، تفجرت فالتقى الماء على أمر، قد قدر.
{قُلْنَا} لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كل صنف من أصناف المخلوقات، ذكر وأنثى، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين، فلأن السفينة لا تطيق حملها {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ممن كان كافرا، كابنه الذي غرق.
{وَمَنْ آمَنَ} {و} الحال أنه {مَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} .
{وَقَالَ} نوح لمن أمره الله أن يحملهم: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي: تجري على اسم الله، وترسو على اسم الله، وتجري بتسخيره وأمره.
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} حيث غفر لنا ورحمنا، ونجانا من القوم الظالمين.
ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} أي: بنوح، ومن ركب معه {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} والله حافظها وحافظ أهلها {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} لما ركب، ليركب معه {وَكَانَ} ابنه {فِي مَعْزِلٍ} عنهم، حين ركبوا، أي: مبتعدا وأراد منه، أن يقرب ليركب، فقال له: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} فيصيبك ما يصيبهم.
فـ {قَالَ} ابنه، مكذبا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة.
{سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} أي: سأرتقي جبلا أمتنع به من الماء، فـ {قَالَ} نوح: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} فلا يعصم أحدا، جبل ولا غيره، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب، لما نجا إن لم ينجه الله. {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ} الابن {مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
فلما أغرقهم الله ونجى نوحا ومن معه {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الذي خرج منك، والذي نزل إليك، أي: ابلعي الماء الذي على وجهك {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} فامتثلتا لأمر الله، فابتلعت الأرض ماءها، وأقلعت السماء، فنضب الماء من الأرض، {وَقُضِيَ الأمْرُ} بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
{وَاسْتَوَتْ} السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} أي: أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا، وسحقا لا يزال معهم.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي: وقد قلت لي: فـ {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} ولن تخلف ما وعدتني به.
لعله عليه الصلاة والسلام، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوض الأمر لحكمة الله البالغة.

فـ {قَالَ} الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين وعدتك بإنجائهم {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي: هذا الدعاء الذي دعوت [1] به، لنجاة كافر، لا يؤمن بالله ولا رسوله.
{فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: ما لا تعلم عاقبته، ومآله، وهل يكون خيرا، أو غير خير.
{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين.
فحينئذ ندم نوح، عليه السلام، ندامة شديدة، على ما صدر منه، و {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
-[383]-
فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين، ودل هذا على أن نوحا، عليه السلام، لم يكن عنده علم، بأن سؤاله لربه، في نجاة ابنه محرم، داخل في قوله {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بل تعارض عنده الأمران، وظن دخوله في قوله: {وَأَهْلَكَ} .
وبعد ذلك تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم، والمراجعة فيهم.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه، فبارك الله في الجميع، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها.
{وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: هذا الإنجاء، ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك، أحللنا به العقاب، وإن متعوا قليلا فسيؤخذون بعد ذلك.
قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة، التي لا يعلمها إلا من منَّ عليه برسالته.
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} فيقولوا: إنه كان يعلمها.
فاحمد الله، واشكره، واصبر على ما أنت عليه، من الدين القويم، والصراط المستقيم، والدعوة إلى الله {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي، فستكون لك العاقبة على قومك، كما كانت لنوح على قومه.

[1] في النسختين: دعيت، وقد عدلت في ب إلى: دعوت.
اسم الکتاب : تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن المؤلف : السعدي، عبد الرحمن    الجزء : 1  صفحة : 382
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست