الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير. وعلمنا هذا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [1] فلا ينظر إلى بهرجة الكثرة ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما وبقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} [2] فلا يجوز أن نغتر بالمال والقوة والجاه وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق والعسر والضعف فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر أو ضجر ويأس وفجُور فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبيت ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحْكم الحاكمين. وبقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [3] فعلمنا أنه بشر ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله وبما يقتضيه من مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال حتى لا تعجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندْركه ببصائرنا. [1] 103/ 5 المائده. [2] 89/ 15 - 17 الفجر. [3] 111/ 18 الكهف و 6/ 41 السجدة.