responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مقالات موقع الدرر السنية المؤلف : مجموعة من المؤلفين    الجزء : 1  صفحة : 169
4 - لمْ يستغرق الأمر طويلاً لأتبيّن حقيقة قول نزار: لن تجدوا مدينة حزينة العينين مثل الشام .. وقد رأيتها بعد طُهر الأمويين ملطّخة بأدران البعث .. لا تكاد تقضي لك بها شأنًا إلاّ بدفع رشوة .. يحاصر بها الكبراء حريات المساكين .. وبردى يغالبُ سلسالاً من الماء تراه يجري مرة ويختفي مرات .. وبنايات قديمة جدًا ومركبات .. ومظاهر من فوضى وشتات .. ذات يومٍ وأنا أتجوّل بسوق الحميدية .. وعلى حين غفلةٍ مني .. خطف صبيٌ محفظتي .. ولم يكن بها سوى ما يعادلُ ألف ليرة .. أدركه العسكري الذي استنجدت به وبعضُ المارة فأمْسكوه .. وحين أعادوها لي قررت مسامحَته .. إلاّ أنهم أشعروني بأهمية الأمر .. وطلبوا منّي التوجه معهم لمخفرِ الشرطة .. ضاعتْ عليّ فرصةُ الاستجمام ذاك اليوم .. ولم يزلْ رئيسُ المخفر - وهو ينفث دخانه باتجاهي - يؤكّد لي حرصه على أمنِ السائحين .. ويستعرض قدراته في استنطاق السارق الصغير باستخدام عصا كهربائية كانت معه حتى اعترف .. ثم استمرّ يتحدث بإشارات كثيرة مفهومة وغير مفهومة كلفتني أخيرًا حين أدركت مغزاها ألفي ليرة .. وددت أنها كانت بيد الصبيّ الجائع وليس الشرطيِّ الشبعان .. وقررت بعدها ألا أمنعَ محفظتي أبدًا من يد أي سارقٍ بالشام .. وحزنت حزنًا كبيرًا .. هربتُ من حزني ذاك إلى حي الميدان .. وزرتُ العالم النبيلَ عبد القادر الأرناؤوط أسأله عن صحة حديث ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)) فقال لي: "نعم هو حديث صحيح، ولا يزال بالشام خير كثير" وكان فعلاً حين أعدتُ النظر خيرٌ كثير ..
5 - كان منظرُ قاسيون من بعيد يحيّي على الزيارة .. وله مغناطيسٌ يجذب إليه الأرواح ..
من قاسيون أطلُّ يا وطني
فأرى دمشقَ تعانقُ السُّحُبا
تراه وقد ارتفعت في سفحه الأحياءُ حتى تكاد تبلغ منتصَفه .. وهو شامخٌ كـ"قاسيون" لا تستطيع أن تجد له وصيفًا فتقاربَه به .. لم يعط الدنيّة لمستبدّ .. أو يضع رأسَه لطاغوت .. وقالوا في سبب تسميته أنه قسا على المشركين فلم ينحتوا منه صنمًا .. هو المَعلم الأثيرُ هناك .. يُشرفك على دمشق وغوطتيها .. ويوقفك على صورةٍ متحركة لا تفترُ من زحام الأسواق وضجيج المركبات .. ويرحلُ بك في الذكرى .. لتنعم بمشاهد لا يستطيعُ وصفَها البيان .. فيها وعْظ الأرواحِ سابقٌ لقرار العيون .. وحديثُ الهوى متقدمٌ على جميل اللحون .. ومزيجٌ من غرام قديم وذكرياتٍ وشجون ..
6 - وحين عرفتُ عن دمشقَ الإجمال على ظهر قاسيون .. ذهبت أبحثُ عن التفاصيلِ في زواياها .. الصالحيةُ ودمشق القديمة .. والمكتبةُ الظاهرية وقبر صلاح الدين .. وباب توما .. ومقبرة بابِ الصغير .. والجامع الأموي، وقد كان تحتَ كلّ ساريةٍ فيه حلقة علم .. والبناياتُ المعمّرة الهازئةُ بقصر أعمار الآدميين وغرورِهم .. ودروب طويلة تسير فيها القدم فتتعب .. ولا تتعب الروح .. ثم وردتُ بيتَ صديقي الشاميِّ ضيفًا وهم أهل ودّ وضيافة فرأيت عجبًا .. الفسحةُ السماويةُ في بطن الدار .. لا يسترها سقفٌ .. ينفذ لها الهواء .. وتتوسطها نافورةُ ماء .. لا تكاد تخطئها البيوتُ الشاميّة .. ونقوشٌ معروفة اللون والأشكال تكسو الأرائكَ والجلسات .. وفاكهةُ المشمش أولُ غرامٍ يعانق في الضيافة شفاهك .. والماء الذي لن تشرب مثله .. حتى لو حملته معك لبلدك .. يفقد عذوبتَه بمغادرة الديار .. وأحاديثُ ماتعة تغلب فيها طريقةُ الكلام الفكرة .. ويذهب معها الخيالُ في سكرة .. ويتخللها كما يقول الشاعر نزار: حزنٌ كبير ..

اسم الکتاب : مقالات موقع الدرر السنية المؤلف : مجموعة من المؤلفين    الجزء : 1  صفحة : 169
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست