اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 563
«إن الفعل قد يتعدى بعِدةٍ من حروف الجر، على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل؛ لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر. وذلك أنك إذا قلتَ خرجتُ، فأردتَ أن تبين ابتداء خروجك، قلتَ: خرجتُ من الدار.
فإن أردتَ أن تبين أن خروجك مقارنٌ لاستعلائك، قلتَ: خرجتُ على الدابة. فإن أردتَ المجاوزة للمكان، قلتَ: خرجتُ عن الدار. وإن أردتَ الصحبة، قلتَ: خرجتُ بسلاحي ...
فقد وَضَحَ بهذا أنه ليس يلزم في كل فعل ألا يتعدى إلا بحرفٍ واحد».
§ ويقول ابن قيِّم الجَوْزِيَّة (ت 751هـ) في كتابه «فوائد الفوائد 2/ 20»:
«الفعل المُعدَّى بالحروف المتعددة، لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على الحرف الآخر. وهذا بحسَب اختلاف معاني الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو: رغبتُ فيه ورغبتُ عنه، وعَدَلْتُ إليه وعنه، ومِلْتُ إليه وعنه، وسعيتُ إليه وبه (انظر الفقرة 49: سعى إلى / لِ/ على / في / بـ). وإن تقاربت معاني الأدوات (يريد الحروف) عَسُرَ الفرق، نحو: قصدتُ إليه وله، وهديتُ إلى كذا ولكذا. وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنىً مع الحرف، ومعنىً مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيُشْربون الفعلَ المتعدي به معناه.
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، رحمه الله تعالى، وطريقة حُذّاق أصحابه، يُضمِّنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار، تستدعي فطنة ولطافة في الذهن.»
§ وتبيّن كتب النحو ما يطَّرد فيه استعمال كل حرف، أي تبين الاستعمال القياسي المنقاد لحروف الجرّ. ويفصَّل فيها وجوه تصريف هذه الحروف في وجهاتها المطردة. لأن المعاجم لم تؤلَّف لتبسط القول في القياس المنقاد، وإنما قامت لتنصَّ على السماع، بل على ما لا يتأتى الاهتداء إليه بالقياس قبل كل شيء. وقد تشير إلى القياس وتُمثِّل له لاستبانة وجهٍ من الوجوه، أو التنبيه على ما يقع فيه اللْبس أو الخفاء فتكشف عنه.
فإذا نُصّ في المعجم على استعمال حرف مع فعل من الأفعال، أُخذ به للإفصاح عن الدلالة المعينة للفعل باستعماله، ولا يمنع هذا أن يُصَّرف الفعل في وجوه أخرى باستعمال حروف اطرد جريانها قياساً في وجهات محدَّدة. وقد يتفق لك استعمال فعل بحرف سماعي وآخر قياسيّ لقصدين متماثلين، نحو: دعاه إلى الجهاد ودعاه للجهاد. ولكن الأصل أن تَعَاقب حرفين (أو أكثر) على الموضع الواحد لا يعني أنهما بمعنًى واحد، إذ يكون كلٌّ على ما هو قياسه. أي إن استعمال حرف في مقام، لا يمنع من إعمال آخر في مثل موضعه بتقدير آخر!
وإذا كان بعض الأئمة (كما فعل الأخفش والزجّاج والزمخشري وأبو حيّان) قد قال - فيما يخصّ (اللام) و (إلى) - بتَعَاقبهما حيناً على الموضع الواحد، أو ذهب إلى تعاقبهما قياساً (كما فعل الإمام المالقي) فذلك لتقاربهما وتماثلهما في كثير من المواضع. ومع ذلك، ليس صحيحاً أن هذا التعاقب جائز في كل موضع!
فإذا جمعْتَ - في استعمال حروف الجر - القياسَ على ما نصّتْ عليه كتب اللغة عامةً، إلى السماع فيما نصّت عليه المعجمات خاصةً، أي إذا ضمَمْتَ يدك على هذا وذاك، كان لا بد أن تلحظ أن تصريف الفعل بحرف من الحروف، إنما يُفْرده بمعنى لا يؤديه تصريفه بحرفٍ آخر، وإنْ داناه أحياناً، لأن لكل حرفٍ وجهةً اختصّ بها دون سواه.
ثالثاً- رأي ابن جني (ت 392 هـ) والكسائي (ت 189 هـ)
قال ابن جني في (الخصائص)، تعليقاً على قول بعض النحاة بأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض: «ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، ولكنا نقول إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسَب الحال الداعية إليه، والمُسَوِّغة له؛ فأمّا في كل موضع وعلى كل حال فلا!».
فإذا قلت مثلاً: «جلستُ للاستراحة»، فهل يصحّ أن تقول في معناه: «جلست إلى الاستراحة؟»، وهل تقول: «سِرْت في البحر»، بدل «سرْت إلى البحر»؟
وهل تقول: «بِعْته في درهم»، بَدَلَ «بعته بدرهم»؟
قال الشاعر الأموي القُحَيْف العُقَيْلي:
إذا رضيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر لَعَمْرُ اللهِ أعجبني رضاها
أراد: رضيْت عنه. ووجه ذلك أنها إذا رضيتْ عنه، عطفت عليه، وأقبلت عليه، ولذلك استعمل (على) في موضع (عن).
¥
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 563