اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1805
وحدُّ الحرفِ: كلمةٌ دالّةٌ على معنًى في غيرِها فقط.
وإذا نظرنا في (بعضٍ)، وجدناها تدلُّ (بنفسِها) على ذاتٍ؛ تقولُ: (هؤلاء بعض الناسِ، وهؤلاءِ بعضٌ)؛ فلا تحتاجُ إلى اسمٍ بعدها تتمِّمُ بها معناها، لأنَّ (بعضًا) تُفهِم بنفسِها صورةً تامَّةً، إذا كانَ معلومًا بالسياقِ الجنسُ الذي يُنمى إليه هذا (البعض)، كما تقولُ: (هؤلاءِ نِصف الناسِ، وهؤلاءِ نِصفٌ). ولولا أنَّ (بعضًا)، و (نصفًا) من الألفاظِ العامَّةِ التي تُطلَق على أجناسٍ متعدِّدة مختلِفةٍ، لما احتجتَ إلى وضعها في كلامٍ ليستبينَ لك معناها تامًّا. وليس صوابًا قولُ مَن ادَّعى أنَّ التنوين في (بعضٍ) تنوينُ عوضٍ؛ فإن تنوينَ التمكين سابقٌ لهُ؛ فأيَّ شيءٍ أفادَ هذا التنوينُ الجديدُ. والذي أدخلَ عليهم اللبسَ أنَّ هذا اللفظَ ونحوَه، كـ (جزء، وكلّ، ونصفٍ) منَ الألفاظِ العامَّة التي ليسَ لها حقيقةٌ ثابتةٌ؛ وإنما تطلَقُ على كلِّ ذي أفرادٍ من أيِّ جنسٍ كانَ. فلهذا كان قولُك: (هؤلاءِ بعضٌ)، كقولك: (هؤلاءِ قومٌ) إلا ما ذكرتُ من اختلافِ النوعينِ من جهةِ الانحصارِ، والعمومِ.
أما (مِن)، فإنها وإن قاربت (بعضًا) شيئًا من المقاربةِ، فبينَهما عندَ التحقيقِ فرقٌ؛ وهو أنَّ (مِن) لا يُفهَم معناها إلا بغيرِها؛ فلا تقول: (هؤلاء مِن) حتى تأتيَ بعدَها باسمٍ.
فهذا بشيءٍ من الاختصارِ بيانُ الاختلافِ بينهما في الحدِّ، وصدقِ انطباقِه عليهما.
أمَّا الخواصُّ، فضربانِ؛ خواصُّ مطَّرِدةٌ، وخواصُّ غالبةٌ؛ فالخواصُّ المطرِدةُ يكتفَى بها، وتوجِب المصيرَ إلى لازمِها. والخواصُّ الغالبةُ يؤخذ بها متى عُدِمت المطرِدة، ولم ينكشف الحدُّ؛ وهي التي تُسمَّى في (قوانين الاحتجاج) بـ (الحمل على الغالبِ)، على أنَّ ذكرَها هنا داعٍ للاستئناسِ، وتثبيتِ الرأيِ.
وإنَّما احتجنا إلى النظر في الخواصِّ، لأنَّ الحدَّ ربَّما يخفَى أحيانًا، أو يكونُ غيرَ صريحِ الدِّلالةِ، أو ربما لا نعلَم قصدَ العربِ في اللفظِ نفسِهِ. ولأنَّ النظرَ في الخواصِّ أيسرُ أيضًا، وأقلُّ مئونةً على الناظرِ.
أمَّا الخواصُّ المطردةُ، فمنها أنك تقول: (إن من البيانِ لسحرًا)، وتقولُ: (إنَّ بعضَ البيانِ لسحرٌ). وهذه علامةٌ تركيبيةٌ، بيِّنةٌ كلَّ التبيُّنِ.
ومنها عدمُ قَبولها علامةً من علاماتِ الأسماء.
وأمَّا الخواصُّ الغالبةُ، فمنها:
1 - عدمُ اشتقاقِ الكلمةِ.
2 - كونُها على حرفينِ، كما يغلب على الحروف.
3 - بناؤها.
4 - أنَّ معنى (التبعيض) فيها لم يدلَّ عليه اللفظُ بالوضعِ؛ إذ الأصل في معنى (مِن) الابتداءِ، كما الأصلُ في معنَى الباء الإلصاقُ؛ وإنما دَلَّ عليه بالتفرّع عن المعنَى الأصليِّ. وهذا أشبُه بالحروف.
وبقِيَ أيضًا أن نذكرَ قانونًا من قوانينِ الاحتجاجِ آخرَ؛ وهو قانونُ عدمِ تردُّد الشيء الواحد بينَ حقيقتينِ، أو معنيينِ ما أمكنَ. وذلكَ أنك إذا جعلتَ (مِن) مرةً اسمًا، ومرةً حرفًا، كانَ هذا أقربَ إلى أن يخالِفَ ناموسَ اللغةِ، لأنَّ حقيقةَ الاسميةِ مباينةٌ كلَّ المباينةِ حقيقةَ الحرفيةِ. والحرفُ إذا وُضِع لمعًنى مَّا، وكان له حقيقةٌ ثابتةٌ، لم ينتقل من حقيقته إلا بمجازٍ مقبولٍ، أو توسُّع متصوَّرٍ في الذهنِ، جارٍ على عوائدِ التطوُّرِ. ولذلك ذكر سيبويه رحمه الله أنَّ جميع معاني الباء راجعةٌ إلى الإلزاق، والاختلاط.
أمَّا (ما)، فإنما كانت في بعض حالاتها اسمًا، وفي الأخرى حرفًا، لأنهما وضِعتا على هاتين الحقيقتين وضعًا واحدًا، واتفقتا في الصورة. وليس أحدُهما تطورًا من الآخر، أو توسُّعًا فيه، لمناقضة هذا لقوانينِ التطور. وهذا يَجري على أكثرِ حروفِ الجرِّ؛ فإن كثيرًا من النحاةِ، ولا سيَّما ممَن يقِف عند المعنى الظاهرِ، كابن مالكٍ رحمه الله [وقد أشار إلى هذا الشاطبيُّ في أكثر من موضعٍ]، لا ينظرونَ إلى أصولِ المعاني، وأسبابِ التوسُّع فيها. وظنِّي أن الذي حملَهم على هذا وَلوعهم بالاستكثارِ من الإحصاءِ، كما فعلوا في علاماتِ الاسم، ومسوغات الابتداء بالنكرةِ؛ وإنْ كانت كلُّها ترجِعُ إلى شيءٍ وَّاحدٍ.
أمَّا استدلال هذا المدَّعي اسميتها بوقوعها موقِع (بعض)، فليس دليلاً، لأنَّ اسم الفعلِ – وهو اسمٌ على رأيِهم – يقعُ موقِع الفِعل؛ تقولُ: (انزل)، و (نزالِ)، و (اسكت)، و (صه). ولأنَّ (ليس) - وهو فعل عندهم - يقع موقِع (ما)؛ وهي حرفٌ.
ولأنَّ بعض حروف الجرِّ، كحرف الباء يقعُ أيضًا موقع الاسمِ (بدل)، ونحوِه. وهو حرفٌ باتّفاقٍ في ما أعلمُ.
وأما وقوعُها موقِع الفاعل حيثُ لا فاعلَ، وموقع المفعول حيث لا مفعولَ، فعلى حذفِ الفاعلِ، والمفعولِ لدلالتِها عليهِما، كما حُذف المبتدأ في قوله تعالى: ((وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ)) وغيره.
¥
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1805