قد علمتَ أنَّ هذه الأبياتَ التي تبلغُ نحوَ سبعِ مئةِ بيتٍ، والتي سُقنَا لكَ بعضَها هي من مَّا تفرَّدَ بروايتِه ابنُ مالكٍ، لم يروِها قبلَه أحدٌ من العُلماءِ. وابنُ مالكٍ كما تعلَمُ من أهلِ القرنِ السَّابعِ، إذْ تُوفِّي سنةَ (672 هـ)، فهل يجوزُ أن تظلَّ مئاتُ الأبيات من الشِّعر سرًّا مكتَّمًا نحوًا من ستِّ مئةِ سنةٍ وهي تدِبُّ على غرَّةٍ من الدَّهْر، وأهلِه، يورِّثُها السابِقُ اللاحقَ، ثمَّ لا يفضُّ أحدٌ ختمَها، ولا يكشِف سرَّها، حتَّى تقعَ إلَى ابنِ مالكٍ وحدَه، ثمَّ تطوَى عن مَّن بعدَه، وترجِعَ إلَى عالَمِ الغيبِ، فلا يقف أحدٌ على خبرِها البتةَ!
أوَليس هذا من مُحالاتِ العُقول؟
أوليسَ من العجَبِ العاجِبِ أن يكونَ ابنُ مالكٍ هو النحويَّ الوحيدَ الذي يتفرَّدُ بهذا المِقدارِ الهائلِ من الشِّعرِ. وقد كانَ قبلَه كثيرٌ من أيمَّةِ النَّحو، ومقدَّميهِم كسيبويه (ت 180 هـ)، والفراء (ت 207 هـ)، وأبي الحسن الأخفش (ت 215 هـ)، والمبرد (ت 285 هـ)، وابن السراج (ت 316 هـ)، والزجاجيِّ (ت 340 هـ)، وأبي سعيد السيرافيِّ (ت 368 هـ)، وأبي علي الفارسيِّ (ت 377 هـ)، وابن جنِّي (ت 392 هـ)، وغيرِهم، وكانُوا أقربَ إلى العربِ الذين يُحتجُّ بشعرِهم، وأحدَثَ عهدًا بالرُّواةِ الذين شافَهُوهم، ولكنَّك إذا تصفحتَ كتبَهم، وجدتَّ شواهِدهم متقارِبةً معروفةً، ومكرَّرةً مألوفةً، ولم تجِد الرجلَ منهم يتفرَّد بشيءٍ من الشِّعرِ إلا علَى سبيلِ الفَرْط، والقِلَّة مع أنَّ كثيرًا منها منسوبٌ إلى قائلِه، أو راويهِ.
وعلَى أنَّا نقول:
هذه الأبياتُ التي تفرَّد بها ابن مالكٍ إمَّا أن يكونَ قد جمعَها من كتبِ النُّحاةِ، فيكون قد سُبِقَ إلَى الاحتجاجِ بها، وإمَّا أن يكونَ هو الذي استخرجَها بنفسِه من بطونِ الدواوينِ.
ولا يجوز الاحتِمالُ الأوَّل، لأنَّ كثيرًا من كتبِ النُّحاةِ مطبوعةٌ مبذولةٌ، ولسنا نجِد هذه الأبياتَ فيها. وقد يُقبَل هذا لو كانَ ما تفرَّد به بيتًا، أو بيتينِ، أو قريبًا منها. كما أنَّ العلماءَ الذي كانُوا في وقتِه، وبعدَه وقد أدركُوا كثيرًا من كتبِ النَّحو قبلَ فِقدانِها كانُوا (يتحيَّرون في أمرِه) كما قالَ الصفديُّ (ت 764 هـ)، ولا يعرِفُون مصدرَ هذه الأبياتِ التي يَحتَجُّ بها، وفيهم أبو حيَّانَ (ت 745 هـ). وهو أوسَعُ اطِّلاعًا منه، وكثيرًا ما ردَّ عليه عليه دعوَى الإجماع بما ينقضُه من الخِلافِ. ومِثلُه عبدُ القادرِ البغداديُّ (ت 1093 هـ). وكانَ عالِمًا عارفًا بالكتب حاويًا لها. كما أنَّ شواهِد كتبِ النَّحو كما نرَى متقارِبةٌ معروفةٌ، فمِن المُحالِ أن يستخرجَ هذا المِقدارَ الكبيرَ من المفقودِ منها، لأنَّا إذا زعمنا أنَّ كلَّ كتابٍ منها تفرَّد بعشرينَ بيتًا لم يروِها غيرُه، ولم ينقلها عنه أحدٌ من العلماءِ المطبوعةِ كتبُهم، وهو عدَدٌ كثيرٌ، فمقتضَى ذلكَ أن يكونَ ابنُ مالكٍ قد اطَّلعَ على ثلاثينَ كتابًا من كتبِ النَّحو كلُّها لم يصِل إلينا، وكلُّها لم يقع عليه أحدٌ من أهلِ عصرِه، ولا من مَّن قبلَهم، ولا من مَّن بعدَهم. وهذا منَ المُحالاتِ التي يأبَاها أهلُ العقلِ، والمعرِفةِ.
وأمَّا الاحتِمال الثاني، وهو أن يكون قد استخرجَها من بطون الدواوينِ، فغيرُ جائِزٍ أيضًا، لأنَّه ليسَ في كلِّ قصيدةٍ يوجَد شاهدٌ. وذلكَ أنَّ أكثرَ الشواهِد إنما هي شواهدُ على مسائلَ نادرةٍ قليلةِ الورودِ. وإذا قلنا: إنَّ في كلِّ قصيدةٍ شاهدًا علَى مسألةٍ، وقلنا: إنَّ متوسِّطَ القصيدةِ عشرون بيتًا، فلا بُدَّ أن يكونَ ابن مالكٍ قد اطَّلَع على ما لا يَقِلُّ عن سبعِ مئةِ قصيدةٍ، أو على أربعةَ عشرَ ألفَ بيتٍ لم يطَّلع عليها أهلُ عصرِه من مَّن هم أمسُّ منه بالشِّعر، وأجمعُ له. وهذا من الأمورِ التي لا يقبَلها العقلُ الصحيحُ.
وإذن، فلا ريبَ أنَّه هو الذي وضعَها.
يُتبع
ـ[جليس الصالحين]ــــــــ[17 - 07 - 2011, 04:24 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما أظنه واجبَ التسليم هو أن هذه الأبيات ليست شواهد نحوية من مقول فصحاء العرب. ولكن ألا يُفسَّر وضعها بأنها للتوضيح والتقريب كأبيات التمثيل؟، وهذا رأي الدكتور تركي العتيبي، ونفسي تميل إليه؛ إذ يصعب رمي ابن مالك -رحمه الله- بالكذب والتزوير كما فعل صاحب (صناعة الشاهد الشعري عند ابن مالك).
أتوافقني على ذلك أم لا؟
ولي سؤال أستاذنا فيصل: هل لك دروس؟، وإن لم يكن فهل عندك استعداد لذلك؟
ـ[السئول]ــــــــ[18 - 07 - 2011, 08:44 ص]ـ
وسأعودُ قريبًا لائتنافِ الحديث إن شاءَ الله.
عذرا شيخنا الفاضل
أليس الائتناف هو البدء من جديد دون إتمام لما سبق
وعليه يفرَّق بين الاستكمال (إتمام ماسبق له ذكر) والائتناف؟
أرجو التصويب ...
ـ[جليس الصالحين]ــــــــ[18 - 07 - 2011, 04:08 م]ـ
عذرا شيخنا الفاضل
أليس الائتناف هو البدء من جديد دون إتمام لما سبق
وعليه يفرَّق بين الاستكمال (إتمام ماسبق له ذكر) والائتناف؟
أرجو التصويب ...
نعم هي كذلك، وأحسب الشيخ استخدمها استخداما صحيحا؛ فحديثه الأول كان توطئة وليس في صلب الموضوع، وفي حديثه الثاني بدأ عرض الكلام حول وضع الشاهد.
¥
اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1200