ويفهم من هذا أن المشركين عندما ناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة أعرضوا ونفروا، ولكن لم يُظهروا له عداوة، ويظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لاحظ ذلك الإعراض، فأراد أن يجذبهم إلى مناقشة، والمناقشة بين الأكفاء محك الصواب وإخبار الحقيقة، فذكر آلهتهم وبين بطلان عبادتها، فأقبلوا مجادلين، ولكن الجدل باللسان أعجزهم وهم القوم الخصمون، فعمدوا إلى الاستهزاء والسخرية وأغروا السفهاء به -صلى الله عليه وسلم- ثم انتقل الأمر من جدل ومقارعة بالحجة إلى اضطهاد ومقاطعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما تدل عليه الأخبار الواردة في سيرته -صلى الله عليه وسلم-.
وهنا نذكر لك شيئًا من جدلهم له -عليه الصلاة والسلام- يصور لك حالهم، ويبين مآلهم: جاء في (سيرة ابن هشام) أن المشركين عندما ضاقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وذهبت معه كل حيلة لهم، وبعثوا إليه ليكلموه ويخاصموه، فأجاء إليهم -عليه الصلاة والسلام- فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه فقد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا للشرف فيكم، ولا للملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)).