ومشيدو أركانه ومقيمو بنيانه؛ وذلك لأن أهل "أثينا" في عصر "بركليس" قويت فيهم رغبة القول واشتدت فيهم داعيته، إذ صار يأسرهم القول البليغ دون سواه.
يقول المسيو "شارل": "امتازت أثينا أولا ببلاغة خطبائها، فكانت حقًّا بلد الأدب وحسن الإلقاء، فبالخطب في مجلس الأمة يقرر شهر الحروب وعقد السلم، ووضع القطائع والضرائب وكل الشئون العظيمة، وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنيين والرعايا أو يبرئون، فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم، وربما عهدت إليهم بإدارة شئون المملكة، فقد عين "كاليون" قائدًا ورأس "ديموستين" الخطيب حرب "فيليب".
وللخطباء نفوذ كبير، وكثيرًا ما يُلجئون إلى بلاغة قولهم للنيل من عداتهم في سياستهم، وربما أثروا لأنهم ينالون من المآرب ما يرضيهم من المال ليعاضدوا أحد الأحزاب. فقد أخد "إيشيل" مالًا من ملك "مقدونيا"، وقبض "ديموستين" دنانير من ملك الفرس، ثم إن بعض الخطباء كانوا ينشئون خطبًا ليلقيها غيرهم، إذ لا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بوكالة محام كما هو الحال عندنا، بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات، فمن ثم كان عليه أن يقصد إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يحفظه ليتلوه في مجلس القضاء، وكثيرًا ما كان بعض الخطباء يجوبون البلاد اليونانية ويتكلمون في موضوعات توحيها إليهم مخيلتهم، فتحتفل لذلك المحافل وتعقد الأندية والمؤتمرات".
وإذا كان التسابق البياني وصل إلى ذلك الحد، فلا عجب إذا رأينا أن من لم يكن قديرًا على فنون القول يحاول أن يتعلمها، ولذا اتجه الناس إلى تعلم الخطابة