اسم الکتاب : الوحي المحمدي المؤلف : رشيد رضا، محمد الجزء : 1 صفحة : 34
العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل
(فإن قيل) إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزى فى الفطرة البشرية كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى فى روع أفرادها عند نمو إدراكهم، وأن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا فى معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرر بعضهم بقاء النفس بعد الموت وخلودها فى نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول الفضائل والتشريع والآداب التى تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع.
(قلت) نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضى، ويشهده العصر الحاضر. ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقا فى مصدر كل منهما، وفى الثقة بصحته، وفى الإذعان لحقيته، وفى تأثيره فى أنفس جميع طبقات المخاطبين.
فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهى عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحّتها يرجّحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشرى يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله فى بشريته وإن فاقه فى علمه وحكمته، وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدوة على النفع والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه.
واضرب لهذا مثلا: إنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلّى الله عليه وسلم ويتبعه وهو فى رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبّخه، فاتفق أن كانا فى مدينة أصفهان فى ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس خادمه فى وقت السّحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل، ثم أيقظه الرئيس فى وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد، حتى قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس لخادمه:
اسمع ماذا يقول المؤذن؟ قال: إنه يقول أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد
اسم الکتاب : الوحي المحمدي المؤلف : رشيد رضا، محمد الجزء : 1 صفحة : 34