اسم الکتاب : بحوث ومقالات حول الثورة السورية المؤلف : الشحود، علي بن نايف الجزء : 1 صفحة : 859
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر .. ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس «مصمما» على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض.
وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض! من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» .. وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد .. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس .. ويكون من قدر الله ما يكون .. وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة .. " (1)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يثبت أصحابه بقصص الأولين وتضحياتهم وصبرهم، كما فعل حين جاءه الصحابة في مكة يشتكون شدة ما يلقون من العذاب - كما في الصحيح عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (2)
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص: 838) زيادة مني
(2) - صحيح البخاري (4/ 201) (3612)
[ش (متوسد بردة) جعلها وسادة له. (تستنصر) تطلب النصرة من الله تعالى. (ليتمن) من الإتمام والكمال. (هذا الأمر) وهو الإسلام. (تستعجلون) النتائج والثمرات]
اسم الکتاب : بحوث ومقالات حول الثورة السورية المؤلف : الشحود، علي بن نايف الجزء : 1 صفحة : 859