والمصاحف أن بعضها قد كتب قبل العرضة الأخيرة للوحي في السنة الأخيرة من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيها ما نسخت تلاوته، كما يمكن أن يقع في مصاحف الصحابة الخاصة نقص آية أو كلمة أو زيادة ناسخ لشرح كلمة وسواها، فيخشى أن يظن من يأتي بعد ناسخها أنه من القرآن، كما كانت مصاحف الصحابة مختلفة في ترتيب سورها، فمصحف علي - رضي الله عنه - مثلاً كان ترتيبه بحسب النزول، فلهذه الأسباب أمر عثمان بإحراق المصاحف.
وقد فعل الصحابة ذلك وامتثلوا أمر الخليفة، واتفقوا على صحة صنيعه، يقول علي - رضي الله عنه -: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً .. والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل). (1)
ويقول مصعب بن سعد - رضي الله عنه -: (أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعب ذلك أحد). (2)
وامتثال الصحابة وفعلهم؛ إقرار لعثمان على صحة ما فعله، لأن ما فعله عثمان هو إعادة نسخ مصحف أبي بكر وفق حرف قريش ولسانهم، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، كما ثار عليه من ثار لأمور أقل منها كتوليته بعض أقاربه على بعض مدائن المسلمين.
ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق من المسلمين مصحفه ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.
وهكذا وُثِّق النص القرآني كتابة، فاجتمع إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه في كل
(1) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في كتابه المصاحف ح (77).
(2) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ح (161)، والقاسم بن سلام في فضائل القرآن ح (460)، وقال السيوطي: إسناده جيد.